الكتابة عن "نضال سيجري" بصيغة الغائب، أمر غير ممكن، فـ"أسعد خرشوف" في حياته اليومية، وفي مختلف أدواره التي عرفه بها الجمهور، يزيننا كل يوم بصوته المجروح وبصرخته المدوية في فضاءات مسارح أيامنا.

في ذكرى رحيله الأولى، وبشهادات أصدقاء عاشوا معه مختلف أحواله المسرحية والحياتية، يظهر دوماً إنساناً وممثلاً ممتزجاً بكيان واحد له حضوره الآسر، وليس هذا من قبيل مديح الغائبين، فالكل هنا في "اللاذقية"، في مسارحها وشوارعها وأمكنتها التي عرفته وعرفها عاشقاً وصديقاً، يجمع على أنه نسيج شخصيته وحدها، وأنه قامة سنديان ستبقى شامخة ما بقي المسرح.

الحب هو الخلاص، الحب هو الحل يا أولاد أمي، الحب هو الحل يا وطني

تذهب الممثلة والمسرحية "رغداء جديد" من عائلة المسرح الجامعي إلى تسميته بـ"إله المسرح السوري"، وتقول في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 12 تموز 2014: «في الوقت الذي انصرف فيه أغلب الممثلين للعمل في التلفزيون وهجروا المسرح، بقي "نضال" يعمل جنباً إلى جنب معنا على الخشبة، وعندما يكون هناك بروفات في "اللاذقية" يأتي من "دمشق" على نفقته الخاصة، ومن أجل فن راق ظل على استعداد لتقديم كل ما لديه من فن وخبرة دون أي تردد».

ضحكته الغنية عن التعريف

أعاد "نضال" إخراج مسرحية "صدى" التي كتبها وأخرجها الفنان "عبد المنعم عمايري" للمرة الأولى برؤية جديدة، شاركت "رغداء" فيها بدور الأنثى مقابل الرجل (الفنان "حسين عباس") في سياق عدة تداخلات إنسانية، وتقول عن علاقة "نضال" بالممثلين: «لم تنقصه الحنكة أبداً، فهو يعرف كيف يتعامل مع الجميع بذكاء، وإصراره الأكبر تركز دوماً على بناء علاقة المحبة مع الجميع، والعلو على الصغائر، فهو ذو رؤية متجددة دوماً للفن ولدور المسرح في الحياة، مستلهماً من "سعد الله ونوس" وغيره من الكتاب المسرحيين الإصرار على نبل المسرح وعظمته».

تتلمذ "نضال" المولود عام 1959 في "اللاذقية" على يد كبار أعمدة المسرح السوري: "ممدوح عدوان"، و"فواز الساجر"، و"نائلة الأطرش"، وصعد إلى خشبته مبكراً منذ تخرجه في "المعهد العالي للفنون المسرحية" عام 1991، وقدم عليها أعمالاً صنفته كأحد أبرز المنافحين عن هذه المساحة الملأى بالأحلام والمسرات والنكبات، ومن أول عمل قدمه على الخشبة زرع جذوره فيها، ويذكر المخرج "قيس زريقة" كيف أنه كان يطلب وبإصرار أن يصعد المستخدم الذي يقدم القهوة والشاي إلى المنصة لتحية الجمهور مع الممثلين والفنيين، إيماناً منه بأهمية الجميع.

مع المخرج المسرحي هاشم غزال

العمل مع "نضال" متعة لكل من عمل معه، فهو الفنان ـ الإنسان الذي تحبه، يقول المخرج "زريقة": «عندما تعمل معه في عرض مسرحي تعشق قداسة العمل عنده، يجعلك ترغب في العمل معه في كل مسرحياته حتى بتقديم الشاي والقهوة، لأن حجم المعرفة التي تنهلها منه، تعطيك الكثير من الأفكار للعمل بعدة عروض، كما أنه مقياس للعمل، فهو لا يجامل حتى أعز الأصدقاء

؛ فقداسة العمل عنده تلغي جميع المشاعر العاطفية، "نضال" يجعلك تشعر بأهمية العمل، لأنه يعمل قبلك ومعك ويستمر بعدك، فلا شيء يمنعه عن العمل، طالما يستطيع التنفس».

في منسك ـ الصورة من الكاتب ممدوح حمادة

كان للراحل طريقته الخاصة في تقديم الأعمال المسرحية، فقد كان يتنفس المسرح، ويتنفسه المسرح، وكل فناني "سورية" يرتبون أوقاتهم حسب تصويرهم التلفزيوني إلا هو، فيرتبها حسب بروفات المسرح.

يذهب المخرج المسرحي "هاشم غزال"، مدير المسرح الجامعي، الذي رافقه طويلاً في رحلته المسرحية إلى القول: «بروفات "نضال" كانت حوالي 12 ساعة منها 11.30 ساعة إنتاج دون كلل أو ملل، يهتم بتفاصيل التفاصيل، ويهتم ببناء علاقة محبة لكل شيء، للمكان، للنص، للشخصية، للشريك، ولا ينفصل "نضال" الفنان عنه كإنسان، وما يميزه عن غيره هو المشروع، فقد حمل في طياته مشروعاً مسرحياً اهتم بالابتعاد عن أضواء العاصمة، متجهاً الى مسرح المحافظات، وتحديداً مسرح الشباب، وقال كلمته: "إن هناك في المحافظات خامات مسرحية تضاهي محترفي العاصمة"».

اهتمامه الثري بالمسرح الجامعي، ساهم في تحقيق نقلة نوعية لهذا المسرح، حققت له حضوراً لافتاً عبر مجموعة أعمال بدأت بإخراجه لمسرحية "صدى" واستمرت مع "نيغاتيف"، وتحققت مع ورشات عمل كثيرة يأتي من "دمشق" إلى "اللاذقية" من أجلها، يتذكر المخرج "غزال" قائلاً: «عدة مرات كان يتصل بي من "دمشق"، ويقول: "سيكون هناك بعد ساعتين بروفة، شوف الشباب"، وخلال ساعتين ونصف الساعة يكون في "اللاذقية"، نضال مسرحي بدرجة عاشق، واللافت بـ"نضال" تنظيمه، فكل شيء عنده مرسوم بدقة، حيث يعد النص بما يتناسب مع مقولاته التي يفصلها للممثلين الذين اختارهم، ويكتب لشخصيات يراها في خياله وفي الواقع، وهو متجدد دوماً، وكل عرض له ظروفه، وفي كل عرض لنفس المسرحية هناك روح جديدة».

المسرح حياته التي لم تبعده عن الأماكن الإبداعية الأخرى كممثل اخترق الصفوف الأولى للتلفزيون بجدارته، فعبر شخصية «أسعد خرشوف» قدم "سيجري" شخصية نمطية غاية في الطرافة والذكاء، إلى جانب صديقه الفنان "باسم ياخور"، يذكر الإعلامي "سامر محمد إسماعيل": «عمل في هذه الشخصية على صياغة كاركتر نهائي للضحك الممزوج بالمرارة والسخرية، جاذباً إليه ملايين المشاهدين، مقتحماً بقوة الأداء قلوب عشاقه الذين ألفوه على المسارح كـ"القباني والحمراء" ودار الكتب الوطنية في "اللاذقية" ممثلاً ومخرجاً ألمعياً وطاقةً أخاذة في مواجهة الجمهور، هكذا قفز اسمه للواجهة مرةً تلو مرة، فـ"نضال" المشغول بالمسرح والمولع به، استطاع أن يكسر عزلته مع التلفزيون أيضاً بعد سنوات من قبوله بأدوار الصف الثاني، ليصبح محط اهتمام المخرجين، وبطلاً من أبطال المشهد الدرامي السوري».

الممثلة السورية القديرة "شكران مرتجى" كتبت في ذكرى رحيل "نضال" قائلةً: «عرفته في أروقة المعهد العالي للفنون المسرحية كفارس نبيل يمتطي حقيبة سوداء لا تشبه الحقائب، مملوءة بالأحلام والأمنيات والمشاريع، شغف حب، إيثار للآخرين كلها والقليل منها له شخصياً، كان ينتقل من خشبة مسرح إلى أخرى مطلقاً عنان حبه في تلك البقعة ومن عليها، مؤمناً بأن رسالة الفن لا تقل أهمية عن رسالة السماء».

في رحلته الجديدة، اختار "نضال" أن يكون المكان الأول لزيارته خشبة المسرح، لم يساوم الرجل في حبه الأول هذا، يومها من على خشبته ترك صرخته التي لا تزال تدوي في شوارع الوطن: «وطني مجروح، وأنا أنزف، خانتني حنجرتي فاقتلعتها، أرجوكم لا تخونوا وطنكم». وآخر ما كتبه الراحل كان: «الحب هو الخلاص، الحب هو الحل يا أولاد أمي، الحب هو الحل يا وطني»، مذيلاً كلامه بعبارة: «صرخة المواطن نضال سيجري».