لا تزال بصماته واضحة على الحداثة الشعرية العربية حتى الآن، ورغم مضي أكثر من ثلاثين عاماً على رحيله فإن الهالة التي تحيط بشعره لازالت مشعة، ولا زالت أعماله مصدر إلهام للكثيرين.

إنه الشاعر السوري "كمال خيربك"، ولد في مدينة مصياف عام 1935 وهو الابن الثالث لتسعة أبناء، وأكبر الذكور لوالد كان دركياً يتنقل بين المحافظات، وتعود أصول العائلة إلى مدينة القرداحة في اللاذقية، يتحدث شقيقه المدرس "هلال خير بك" عنه فيقول في حديث لموقع "مدونة وطن" eSyria بتاريخ 23/2/2013: « تعلم "كمال" حروفه الأولى في مدارس اللاذقية ونال الشهادة الثانوية منها، موهبته الشعرية برزت منذ بداية شبابه المبكرة إلى جانب امتلاكه بوادر الشخصية القيادية، فقد بدأ يكتب الشعر منذ الخامسة عشرة من عمره، وقد قال فيه وقتها مدرسه الأستاذ المرحوم "سليمان الخش" والذي أصبح وزيراً للتربية خلال السبعينيات متوسماً نبوغه الشعري والأدبي: "أنت في كفة وجميع طلاب سورية في كفة أخرى"، في تلك الفترة إياها رد على الشاعر الكبير "بدوي الجبل" في قصيدته الشهيرة " خالقة " أثبتها في ديوانه الأول "البركان" عام 1960 مستخدماً نفس القافية والوزن ولكن برؤية مختلف كلياً عن البدوي».

من خلال قراءة تجربته الشعرية فإن الاستنتاج الأول هو أنه لا يمكن لأي كان أن يكتب وينتج هذه النوعية من القصائد الخالدة السطوع الشعري ما لم تكن الكينونة الشعرية فيه متأصلة في تشكيل رؤية عن الذات والعالم

ويتابع السيد "هلال" حديثه فيقول: «انتقل كمال إلى بلدة الكورة في شمال لبنان مطلع عام 1952 وعاش فيها وتزوج منها ابنتها "نجاة نجار"، ولمع نجمه في الحزب السوري القومي الاجتماعي كأحد قادته وحمل اسماً حركياً هو اسم "قدموس" وظل يحمله معه إلى آخر حياته، وهناك في الكورة ألقى أول قصائده أمام الجمهور وقد رحب به الجمهور الحاضر أيما ترحيب وصدرت هذه القصيدة أيضاً في ديوانه الأول عام 1960 حيث وقعه في بيروت وكان في الخامسة والعشرين من عمره وقتها، وكان هذا الديوان بمجمله قصائد قومية مقفاة الوزن ولم يكن مشروع كمال الشعري الحداثوي قد تبلور بعد».

غلاف وداعا ايها الشعر

ويضيف: «كان ديوان "البركان" هو الوحيد الذي وقعه الشاعر شخصياً، ديوانه الثاني جاء تحت عنوان "مظاهرات صاخبة للجنون" صدر عام 1965 بتوقيع مستعار "كمال محمد" وكان نقلة في مسار كمال الشعرية فقد استخدم شعر التفعيلة بدل العمود في أغلب القصائد».

انقطع الشاعر "كمال خيربك" عن النشر بدءاً من عام 1965 وحتى استشهاده، ويتحدث أخو الشاعر "جمال خيربك" عن ذلك فيقول: «خلال انقطاعه عن النشر كان مستمراً بالكتابة الشعرية على قصاصات علب سجائر الجيتان، وهي القصاصات التي احتفظ بها أصدقاؤه " أدونيس، وغسان مطر، وبدر الحاج، ومخول قاصوف" لينشروها لاحقاً في ثلاث مجموعات شعرية هي "دفتر الغياب" و" وداعاً أيها الشعر"، وكان آخرها "الأنهار لا تعرف السباحة في البحر"».

السيد هلال خيربك

ويضيف: «انتقل كمال خيربك إلى منفاه الثاني الباريسي حيث انتسب إلى جامعة السوربون في باريس ليعد أطروحته الشهيرة حول "حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر- دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية" بإشراف المستشرق الفرنسي وصديق العرب "جاك بيرك"، ثم قدمها إلى جامعة جنيف عام 1972 ونال عليها درجة الشرف، وتأخرت طباعتها بالفرنسية حتى عام 1978 بجهد كبير لزوجته "خزامى قاصوف" التي تزوجها في باريس، وقد صدرت لاحقاً مع أعماله الكاملة عن دار نلسن عام 2011 في بيروت».

وعن تجربة كمال خير بك الشعرية يتحدث الناقد الأدبي والمترجم الدكتور "صلاح الصالح" فيقول: «من خلال قراءة تجربته الشعرية فإن الاستنتاج الأول هو أنه لا يمكن لأي كان أن يكتب وينتج هذه النوعية من القصائد الخالدة السطوع الشعري ما لم تكن الكينونة الشعرية فيه متأصلة في تشكيل رؤية عن الذات والعالم».

صورة أخرى للشاعر عام 1975

ويضيف الدكتور "صالح" قائلاً: «كمال خير بك شاعر احترم مسألتين الأولى الموروث الشعري القديم فظلت التفعيلة والنغمة في شعره حاضرة غير مفتعلة خاصة القافية لديه التي تأتي عفوية ومرتاحة الحضور، الثانية أنه لم يضطر إلى استعمال مجازات اللغة فكانت اللغة مطواعة بين يديه، ولم يحتج إلى الخطأ الشائع في القصيدة أو المكروه.. باختصار لم يكن شاعراً معوزاً للغة فاللغة وقواميسها لديه تفوق القصيدة وحاجتها لديه».

الأديب " سليمان سعيد" تحدث عن تجربة كمال خيربك أيضاً فقال: «كان كمال خيربك مقاوماً وفدائياً ، وهذا التبادل الدائم بين دوري الشاعر والمقاوم صبغ حياة كمال خيربك دوماً ، ويوم سقط كمال شهيداً وجد أصدقاؤه في جيبه الممزق آخر وصاياه الشعرية الفريدة حقاً في الشعر العربي:

"مثلكم تتراكض كل العصافير في شجر الاعتقال..

مثلكم يتصاعد صوت الينابيع ذبحاً وبعض الرجال..

حاصروا الشاهد الوحيد على مسرح الاغتيال..

مثلكم، كنت ملقى وجرحي..

ساهر يتنفس صوت الرصاص وحولي..

وطن هارب "كنت ميتاً"..

مر من جانبي، رآني..

مر من جانبي حارس الجرح، لكنه لم يشأ أن يراني"».

ويختم بقوله: «جاء استشهاده في الخامس من تشرين الثاني 1980 ليغلق سيرة حياة نابضة بالتوهج والقلق والمنفى، ويعطي لتجربته أبعاداً إضافية أكثر ثراء وحياة حتى اليوم، وهو - بلا شك - احتل كمجايليه من مؤسسي الحداثة الشعرية العربية كأدونيس ومحمد الماغوط ويوسف الخال الواجهة باقتدار تشي به قصائده التي لما يجف حبرها حتى اليوم».

الناقدة "خالدة سعيد" كتبت عنه قائلة: «لقد مزج كمال خيربك الأداء الشعري بالأداء الفكري، كان مع شعارات تلك الحقبة الشعرية: "التغيير" و"الرؤيا" و"إعادة خلق العالم"، لكنه تبنى "اللغة المفرطة العمق، والجِدّة المفرطة البساطة، والوضوح القادر على الوصول والتحرك"».