حركات منظمة وأخرى لا إرادية هي تقليد توارثه الآباء عبر الأجداد فأصبح طقساً فلكلورياً عشقته الأجيال جيلاً بعد جيل، ونقلته معها من بيادر القمح إلى أفراح الربيع والمهرجانات الشعبية وصولاً إلى حفلات الأعراس في أيامنا هذه، فصار الشاطر من يبدع حركة جديدة يسرق فيها الأضواء ويولع الدبكة حركة ونشاطاً على أنغام الموسيقا الشعبية والأغاني الساحلية.

الدبكة الشعبية في تاريخها وتطوراتها، وما المتعة التي تحملها للدبيكة؟ ومن أين تستقي حركاتها؟ أسئلة بحث لها موقع "eSyria" عن جواب يشمل الماضي والحاضر، والبداية كانت مع الشاعر "أحمد شحادة" حيث قال: «تعتبر الدبكة من أهم أركان التراث للعديد من الدول ومن ضمنها سورية، وهي عبارة عن حركة بسيطة لا إرادية تعبر عن أحاسيس الإنسان ومكنوناته الداخلية، فالطفل حديث الولادة إذا راقبته عندما يسمع موسيقا فإنك تجده يعبر بجسده مستخدماً حركات إيمائية تشبه الدبكة وتتماشى مع شعوره، والعرب كانوا يؤدون حركات إيمائية ويستخدمون أجسادهم والسيف والرمح وحتى ركوب الخيل للتعبير عن فرحهم، فالحركة كانت أساس التعبير، والدبكة هي جزء من الحركة اتسمت بالتعبير والحركات الجسدية الدالة على الفرحة والابتهاج فهي تقليد ارتبط في الماضي بالأفراح التي تعقب النصر والسلم والمسابقات كما كانت ولا تزال معتمدة في المهرجانات والأعراس الساحلية، وهي ليست تقليداً عشوائياً بل ترتبط بشكل وثيق بالإيقاعات الموسيقية والجمل اللحنية التي تعزف مع الدبكة».

نستطيع القول إن الدبكة هي شيء من الفرح والسرور، وهي ذوق رفيع وأدب يحركه فنٌ راقٍ وتراث أصيل

ويضيف "شحادة": «الكلمة هي الأساس في تحريك الدبيكة، واللحن يرتبط بالكلمة وليس العكس، فالشاعر يؤلف الكلام والموسيقي يعزف موسيقاه وفقاً لهذه الكلمات، فالكلمة هي التي تخلق اللحن وهي التي صنعت الدبكة».

الشاعر أحمد شحادة

ويتابع "شحادة": «الإنسان ابن بيئته لذلك اختصت كل منطقة في سورية بنوع معين من الدبكة والساحل السوري اختص بنوع اسمه "السيرحة" وهو مرتبط بإيقاع موسيقي "القتاقفت" أو الإيقاع البلدي».

الدبكة كانت جزءاً من النسيج الشعبي بين الأهالي في الماضي حسب ما قاله لنا السيد "علي الصخر" وأضاف: «عمرها مئات السنين ولا أحد يستطيع تحديد بدايتها، فنحن منذ رأينا النور ونحن نعرف الدبكة التي كانت في الماضي عنواناً للأصالة والفن حيث كنا نرتدي فيها اللباس العربي الأصيل ونصطف بعفوية بشكل منسق وأنيق بحيث نشكل لوحة شعبية تلقائية تنافس أفضل الفرق الحالية المدربة والمختصة، كما كان هناك دبكة خاصة بكبار السن تسمى "دبكة الأكابر" أو الموقرين».

السيد علي الصخر

ويضيف "الصخر": «عندما كنا شباباً كنا نتنافس على قيادة الدبكة "راعي الأول" رغم صعوبتها فـ"دبـّيك الأول" يجب أن يجيد وزن الإيقاع ويكون نشيطاً سريع الحركة، لذا كنا نتفاخر بطول الفترة التي يستطيع فيها أحدنا الاستمرار في الدبكة على رأس المشاركين وبالحركات الجميلة التي يقدمها، كانت الدبكة في الماضي تعبر عن شموخ الشباب ورجولتهم فيما كان الرقص للنساء أما اليوم فقد اختلطت العادات بعضها ببعض وأصبحت كل الطقوس مشتركة فتجد حلقات الدبكة عامرة بالنساء والرجال معاً وكذلك الرقصات أيضاً».

ويتابع "الصخر": «كنا ننتظر مناسبة الفرح من الفترة للأخرى لكي نغتنم الفرصة ونستعرض رشاقتنا ولياقتنا أمام الصبايا، وكانت معظم الزيجات وحالات الحب تتبع المهرجانات والبيادر التي كانت تعمر فيها حلقات الدبكة».

حسن رمضان

كما كان لأهل العلم كلمتهم فتقول مدربة الدبكة الاختصاصية "لارا صبيح": «كانت الدبكة في الماضي تعتمد على حركات تراثية معينة بعضها ارتجالي كالتي يقوم بها "راعي الأول" الذي يعد العنصر الأساس أو العمود الفقري لما اصطلح على تسميته "مرسح الدبكة" أو ساحة الدبكة، فهو كان يحمل دور القيادة وهو الذي يحدد سير الجماعة، لكن الحركات القديمة طرأ عليها بعض التغييرات فالنمط الجديد من الدبكة تغير وأصبح يتمتع بعدة ميزات لدرجة أنه صار نوعاً من الفنون والرياضة بشكل شبه احترافي، وطرق الدبكة لم تعد تختص بمحافظة واحدة بل أصبحت الحركات متشابهة والأنواع مستخدمة في كل المناطق ولا تُميز عن بعضها إلا عن طريق الأغاني المرافقة، والحركات الجديدة في الدبكة (بهلوانيات- جماليات- وحركات المقص) مع موسيقا تراثية يدخلها شيء من الحداثة، كما أن لغة التعبير أصبحت تدخل في الدبكة حديثاً وخاصة في حركات الوجه».

وتضيف "صبيح": «على الرغم من دخول بعض الحركات الجديدة إلا أن الدبكات في الأعراس ما زالت على الطريقة القديمة التي يدخلها القليل من الحركات الجديدة المخترعة في نفس اللحظة، الدبكة الحديثة تستخدم التعبير بالجسد والوجه معاً بخلاف الماضي حين كانت فقط عبارة عن حركات بالأرجل، اليوم لا يوجد نوع منها يسمى الدبكة الحديثة، لكن هناك حركات جديدة أدخلها بعض الدبيكة».

وفيما يخص اللمحة الساحلية في دبكة أهل الساحل تقول "صبيح": «اللمحة الساحلية بقيت موجودة في الدبكة الساحلية نتيجة العلاقة المتأصلة بين الأغاني الشعبية والجمهور الذي يعشق الدبكة على هذه الأغاني».

كما التقينا الفنان الشعبي "فواز أحمد" والذي حدثنا بالقول: «كانت الدبكة ولا تزال العنصر الرئيسي في أفراح الساحل السوري فهي الوسيلة المثلى بالنسبة لأهل الساحل للتعبير عن فرحهم وسعادتهم مستخدمين فيها حركات محلية ومستوردة، فالدبكة اليوم لم تعد مثل الماضي كلها من وحي المنطقة بل دخلت إليها بعض الحركات الغربية الحديثة وبعض الحركات من أنواع أخرى للدبكة فأصبح الاختلاط فيها واضحاً ومؤثراً بحيث أصبحت ترضي الجميع كباراً وصغاراً، كما أنها صارت مطلباً في كل عرس ولكل مطرب شعبي، فاليوم نجاح الأغاني في الحفلات يرتبط بحجم الدبكة التي تحركها الأغنية كدليل على تحريك المشاعر والأحاسيس».

الجيل الجديد يرى الدبكة بعين المستمتع الذي يتوق لكي يكون راعياً لها ويقول "حسن رمضان": «الدبكة هي تراث من الماضي سار في عروق الأجيال جيلاً بعد آخر فعندما أسمع الموسيقا تتحرك مشاعر الدبكة في عروقي، فأنهض من مكاني وأمسك على الأول وأبدأ الدبكة التي أتقنتها يوماً بعد آخر وأضيف عليها بعض الإضافات الناتجة عن الشعور بالبهجة والفرح، و"دبـّيك الأول" هو قائد جيش الدبيكة يليه المنظم ثم عناصر الدبكة حتى الشخص الأخير الذي يكمل الأول ويختم حلقة الدبكة بحركاته المتحررة البعيدة عن القيود والأخير في حلقة الدبكة لا يقل أهمية عن الأول».

ويضيف "رمضان": «نستطيع القول إن الدبكة هي شيء من الفرح والسرور، وهي ذوق رفيع وأدب يحركه فنٌ راقٍ وتراث أصيل».

تستمر الحياة ويتغير كل شيء ويتطور كل ما هو قابل للتطور، فما التغيرات والتطورات التي ستطرأ على الدبكة لاحقاً؟ وهل ستستطيع الصمود في وجه الرقصات الحديثة وطرق التعبير المختلفة لبعض الأجيال الجديدة؟ سؤال نترك للأيام القادمة حق الإجابة عنه.