الكتابة عن شاعر سوري مثل "طلال سليم" تعني الكتابة عن جيل كامل من شعراء شباب خرجوا من جبال الساحل إلى تجربة غنية في مفرداتها وحداثتها بحواملها الشعرية، متشرّبةً أصالة الينابيع وشرود الأمكنة وأسئلةً كبرى تتوالد كل يوم أكثر فأكثر.

الشاعر المفرد حضر آخر أمسية له في ثقافي "كفر سوسة" شخصان، لا يبدو منزعجاً من الأمر، نبدأ حوارنا معه من الشخصي وصولاً إلى العالم الخارجي، فهما في صلب تجربته الشعرية؛ فالشعر من دون الذات لا ينفع بشيء، والذات من دون العالم لا تنفع بشيء.

لي بصمتي الخاصة في شعري، ولي قاموسي الذي ينتمي إليّ، نصوصي وكتاباتي لم تترك أي شيء في الوجود إلا وتناولته من جماد ونبات وبشر، لا أحب أن أصنف ضمن قائمتين "ريف ومدينة"، أو ضمن غيرهما، لقد كتبت عن كل العوالم، لكن عالمي الأحب هو عالم البراري، العالم الذي يسري فيّ

سألته في بداية حوارنا كم إصبعاً لديك في يديك، هل هي "أحد عشر إصبعاً"؟ فأجابني: «ولدت في بيئة تعتبر ولادة طفل بأحد عشر إصبعاً لعنةً أو فأل شر، حسب المعتقدات الشعبية، كان أن لحقت بي هذه اللعنة وجعلتني في طفولتي أخجل من إصبعي الحادي عشر. وقد تم استئصال ذلك الإصبع عند الطبيب لا بالمنجل كما كان يريد خالي، لم يمر الحدث دون أثر في نفسي، إنها علامة مميزة لتاريخي الشخصي، وهذه العلامة كانت حاضرة في ديواني "أحد عشر إصبعاً" مرة كعنوان، ومرة كواحدة من قصائده».

غلاف "شهوة الخريف"

ولد "طلال سليم" في قرية "عزلاء منسية" تقبع في آخر حدود منطقة "صلنفة"، واسمها "بلوطة"، عام 1970، "فرت من جذورها نحو الله؛ تبحث عن عصافيرها المشردة" كما يقول في وصف أمه في مجموعة "أحد عشر إصبعاً". وككل الأطفال في تلك البقاع السورية النائية ذهب إلى مدرسة (في قرية مجاورة مشياً على الأقدام تحت حبات المطر وخيوط الشمس)، أنجز للآن أربع مجموعات شعرية كانت كافية لاستنباط المسارات التي يهرول فيها باحثاً عن لقطة مفارقة في الشعر، غارقاً في نثرية الأشياء والأزمنة المتساقطة مع ضباب قريته، ومع زحمة "مزة86" حيث يقيم حالياً مع بقية عائلته التي التهمت الأزمة السورية ثلاثة أفراد منها، ليبقى وحده مع طفلين اختطفا أيضاً لعام كامل ويعودا إليه منذ عدة أشهر، وتبدأ رحلة بحث جديدة عن "وطنٍ جميل".

حمل صاحب "أحد عشر إصبعاً" همّ الشعرية مبكراً، يعترف في حديثه معنا، فيقول: «منذ صغري كانت تشدني الكلمات الشاعرية، وكنت أهرب بالخيال من واقع مرير أعيشه مع أسرتي. فأبي الفلاح كان عصبياً جداً يضربني لأي خطأ، وبعد دقائق ينسى أنه ضربني، وكأنه لم يكسر شيئاً في قلبي معتمداً على مقولة: (الله يرحم اللي بكاني ولا يرحم اللي ضحكني). في ظل هذه القرية المعزولة كان الخيال يأخذني بعيداً نحو بلاد من شموس وأمطار وحنين، وأحلم بأضواء المدينة وبحرها، وأصوغ حلمي بكلمات بسيطة. كنت أرعى الغنم مع جدي العجوز في البراري البعيدة، وكان جدي يحفظ أشعار الزير وأبو زيد الهلالي عن ظهر قلب، يغني أمام القطيع بصوته الريفي الحزين، وكنت أستمع إليه وأصغي إلى شجاعة الزير وبلاغته، وأحلم لو كنت الزير بكل معنى الكلمة. أركب حمارنا الهزيل وأرفع عصاً بوجه جساس، متخيلاً معركة ستدور بيننا، وسأهجوه بأشعاري القاسية التي تجعله يخجل وينكسر بضربة سيف خشبي مني. في هذه البقعة المعزولة من العالم والآسرة بسحرها وغناها المكاني والجمالي تشكلت بذرة الموهبة».

غلاف حكايات مسمارية

في تعريف الشعر يغرق الرجل في سحابة الضباب والبنفسج الذي تنبته أرض قريته، حتى في منفاه الاختياري "الدمشقي" يرى البنفسج طافياً، "الشعر هو بنفسج الكلام الذي لا يذوي ولا يشيخ"، يقول صاحبُ "شهوة الخريف"، مكملاً: «الشعر بوح نايات في زمن صرير العجلات».

عبر مجموعاته الأربع استطاع الشاعر تكوين هوية شعرية خاصة به كما يقول، ويرفض أن يشبه أحداً أو يشبهه أحد، فالشعر نسيج نفسه"، يضيف: «لي بصمتي الخاصة في شعري، ولي قاموسي الذي ينتمي إليّ، نصوصي وكتاباتي لم تترك أي شيء في الوجود إلا وتناولته من جماد ونبات وبشر، لا أحب أن أصنف ضمن قائمتين "ريف ومدينة"، أو ضمن غيرهما، لقد كتبت عن كل العوالم، لكن عالمي الأحب هو عالم البراري، العالم الذي يسري فيّ».

أحد عشر إصبعاً

في عوالمه الشعرية ينحاز إلى المشهدية السردية والتفاصيل اليومية، يستدعيها من ذاكرته البصرية المثقلة ببراري الطفولة، يطوعها في تناقضات الصورة البصرية التي يقدمها متنوعة المشارب، مرة يجري التضاد المباشر بين الماضي والحاضر، ومرة يوازيهما معاً في سياق رحلة القصيدة.

لم يكتب "سليم" الشعر السياسي، رغم كل الظروف القاسية التي مرت بها سنوات حياته بعد الأزمة، فالشعر السياسي يقتل النص الشعري كما يقول، يضيف: «الشعر عندما يكون مباشراً يفقد عنصر الدهشة إلا فيما ندر، لقد مات الشعر السياسي، بعد انتهاء دوره التحريضي لعموم الناس، اليوم، ما سيبقى هو الشعر الإنساني، الشعر الذي يرمم ما هدمته الوحوش من إنسانيتنا، في كل الحروب يسقط أبرياء وأنا منهم، السياسي يتاجر بالدم (ومنه السوري)، للأسف أغلب السياسيين هم تجار مواقف، والبشر عندهم ليسوا أكثر من أدوات للوصول إلى غاية ربما تكون الكرسي أو مصالح اقتصادية، متناسياً تاريخ "سورية" وحضارتها الموغلة في القدم، هذا السياسي ستلعنه عشتار وروح بعل السوري.

يبقي الشاعر نصه في أغلب الأحوال كما هو فلا يمارس عليه أية رقابة ولا أي تهذيب لفظي ولا شكلي، ويتركه كما هو "ليخرج للقارئ عارياً مني ومحملاً بما التقطت من فجوات الذاكرة"، و"لا أمارس الرقابة إطلاقاً على النص، ولكن أعود إليه كما يعود الفلاح ليرى زرعه، ويمكن أن أشذب كلمة أحس بأنها جاءت في غير مكانها. وخيانة الدفقة الشعرية جميلة ومبررة برأيي إن كانت تعطي النص نوافذ أكثر وتثير الأسئلة"؛ بالتالي تبقى الكتابة من أجل "عالم يتسع فيه القلب لكل الأسئلة وليس لأجل منابر، هكذا هو الشاعر الحقيقي، النبي الحقيقي يبذر في تربة الكون نوافذ للمطر وللحياة"».

في لعبة المنابر الشعرية يريد الشاعر أن يبقى خارجها، فهو يرى أن "الشاعر الحقيقي لا يهتم بالمنابر، يهمه من هذا العالم أن يكون هناك مجموعة، ولو قليلة من البشر، هم خميرة للأرض حتى لا يصيب قلبها الجفاف، فتصدأ ويعم الجفاف، لا للأنبياء في الشعر. الشاعر يهدم، يخلخل الكون، ويهزم طوفان الخضوع والصمت، ويعيد ترتيب هذا العالم كما يحلو له لاهياً عابثاً بكل القوانين".

الشاعر السوري "نصر محسن" قرأ "طلال" الإنسان فكتب فيه يقول: «حين قرأتُ قصيدته: أحد عشر إصبعاً، لم أستطع كبح دهشتي، فانفجرت تسبيحاً لآلهة رأيتها تحيط بوجهه البريّ، هو الوجه البريّ ذاك الذي نظر إليّ متفحّصاً ملامحي الغريبة، وكيف لا تكون كذلك وأنا أرى وأقرأ رجلاً بكامل الغرابة؟ كيف لا تكون الملامح غريبة حين نفاجأ بكائن مختلف، كائن نبحث عنه بشغف، لنجده بيننا، هكذا، وبهذه البساطة عرفته».

الشاعر "طلال سليم" خريج جامعة "دمشق" كلية المكتبات والمعلومات، صدر له: "لنجالس المطر" الطبعة الأولى 2005، والثانية "أحد عشر إصبعاً" - 2006، وكلاهما عن دار "الطليعة الجديدة" بدمشق. الثالثة "حكايات مسمارية" 2010، أما الرابعة فهي "شهوة الخريف"، وكلاهما عن دار "بعل" دمشق 2013. أقام عدداً من الأمسيات الشعرية في المراكز الثقافية في "دمشق وطرطوس".