تعتبر لوحة فسيفساء هرقل "هيراكلس" من أبرز الأعمال الفسيفسائية التي تجَسد النزعة الكلاسيكية المثالية في الفن السوري القديم، وذلك من خلال العناية بتصوير الأشكال على نحو واقعي يتمثّل أفضل القيم الجمالية في الشكل الإنساني, وهي مستقاة من التراث الاغريقي.

هذه الأرضية تمّ اكتشافها في مدينة "حمص"، "حي الأربعين"، وذلك في عام 1987م، ونقلت إلى متحف المعرة.

و يعود تاريخ هذه اللوحة إلى أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي.

إطار المشاهد.

ومشاهدها تتميز بموضوعاتها الميثولوجية التي تسطّر ذاكرة هامة لولادة هرقل "إله القوة عند الإغريق"، وذلك من خلال التعابير الدرامية والحالة الإنسانية التي رصفها الفنَّان، حيث اهتم ذلك الفنَّان برصف الألوان الداكنة التي تعبّر عن مأساة المشاهد حتى تفجَرت الألوان بشكل صارخ . كما ركَّز الفنَّان على لباس الأشخاص وأظهر ثنايا هذا اللباس من خلال حركة الشخوص التي اتَّخذت مسارات نمطية مترادفة. وأخذ هرقل اسمه من هيرا، هيراكلس، أي الذي اكتسب المجد من هيرا.

المشهد الأول: كان زيوس "رب الأرباب" مولعاً بالنساء الجميلات، وكانت "ألكمين" من أجمل نساء عصرها في طيبة اليونان، فتقدم لها "زيوس" متقمصاً شخصية زوجها "أمفتريون" بعد أن ألهاهُ برعي القطعان خارج المدينة، ويلاحظ "كيوبيد" إله الحب، مرافقاً زيوس ويمسك ردائه، وهو بهيئة طفل مجنح ويحمل في يده قوساً.

تفصيل قيام هرقل بخنق الأفاعي

في هذه الليلة عاد أمفتريون واقترن أيضاًَ بألكمين بعد أن اقترن بها زيوس .

فحملت توأمين هرقل من زيوس، وإيفكليس من أمفتريون.

والدة هرقل الكمين

المشهد الثاني: يمثل هذا المشهد ولادة "هرقل" وأخيه "إيفكليس"، ويبدو هرقل في المهد يصارع أفعوان صنيعة هيرا.

حيث كان دأب "هيرا" زوجة "زيوس" قتل كلّ نسل لزوجها من غيرها، حتى تحتفظ بالألوهية لأولادها، فقامت بتأخير ولادة هرقل لليلة واحدة،حيث ولد إيفكليس وبعدها هرقل. فقامت هيرا بوضع الأفاعي في المهد لقتل الطفل هرقل، إلا أنَّ الصفات الإلهية التي يمتلكها هرقل والتي كسبها عن ولادة زيوس أدت إلى قيام الطفل بالقبض على الأفاعي وخنقها، وتقوم والدته ألكمين بسحب طفلها إيفكليس خوفاً عليه من الأفاعي، ويهبّ الجميع لإنقاذ هرقل، ويلاحظ والده أمفتريون مشهراً سلاحه والحراس قد هبّوا جميعاً لإنقاذ هرقل، إلاّ أنّ الجميع قد فوجئوا بهرقل الذي قام بخنق الأفاعي.

هذا المشهد الدرامي الحزين من أجمل ما رُصفت به الفسيفساء في سوريا، حيث برزت براعة الفنّان من حيث جمال الألوان وحُسن الرصف والتكوين, فضلاً عن اللمسات الحزينة لنظرات الأشخاص التي عبّرت عن مدى المأساة التي يعيشها هذا الطفل, وحرارة هذا الحدث تعكس قيم الفن الجميل في العهد الروماني الذي امتاز بالأسلوب الفني البصري الذي يعكس الأحداث الملحمية التي يعالجها الفنّان, ويعيش المشاهد بجو الأحداث ويندمج معها, وهذا يدل على مبلغ الذوق الفني الرفيع الذي يمتاز به الفنّان الفسيفسائي السوري القديم. وقد وُثقت أسماء الأشخاص باللغة اليونانية.

المشهد الثالث: يتقدم هرقل "هراكلس" وهو بهيئة رجل ممتلئ الجسم، إلى زيوس "رب الأرباب"، ليمنحه الخلود ومن خلفه تبدو "أثاناسيا" رمزالخلود تحمل مشعلاً بيدها، لتبارك هرقل, فيفرض عليه زيوس عدداً من الامتحانات منها مصارعة أسد نيما، وصيد الظبيّة السيرينية والطيور التمغالية ومعارك أخرى كثيرة، جسَّدها الفنّان في إطار مشاهد اللوحة, وقد برز في الإطار ورق الأكانتس على هيئة جامات دائرية, ورُصفت على أرضيّة سوداء فبرزت الأشكال مجسّدة بشكل فني بديع، وضمن الجامات الدائرية صُور هرقل بهيئة طفل ممتلئ الجسم وهو بحالة مجابهة مع الحيوانات، حتى ينتصر عليها، فيمنحه زيوس الخلود.

المشهد الرابع: يبدو هرقل بهيئة رجل يقوم بطعن الأفاعي التي التفّت على شجرة تفاح، لتنقض على أوقيانوس "إله المحيطات"، فيقوم هرقل بطعن هذه الأفاعي, ويلاحظ الدماء تسيل منها, وبرز في رأس أوقيانوس قرنان رمزاً للخصب، ويلاحظ مدى مقدرة الفنَّان على إبراز التفاصيل في جسم أوقيانوس من خلال توضيح العضلات والعصب والتدرّجات اللونية الرائعة.

تبلغ مساحة هذه الأرضيّة بحدود سبعة وعشرين متراً مربّعاً، وهي من أجمل النفائس الفسيفسائية التي تركها المبدع السوري، لتعبّر عن المدارس الفنية التي نحاها ذلك الفنّان الفسيفسائي في العهد الروماني، والتي تجسّد المدرسة الإنطباعية والواقعية بتجسيد رمزي بديع.

**********

المصادر والمراجع:

ذاكرة الفن التشكيلي ـ ج 1 ـ طاهر البني

دليل متحف معرة النعمان ـ مطابع وزارة الثقافة ـ أحمد الغريب

معجم الأساطير اليونانية والرومانية ـ سهيل عثمان ـ عبد الرّزاق الأصفرـ وزارة الثقافة 1982.