مآسٍ حقيقية، وأوجاع تقطّع القلوب، خلفتها عادة زواج الأقارب في قرى عديدة من محافظة "إدلب"، فلسنوات قريبة كانت هذه الظاهرة تنتشر على طول المحافظة وعرضها، إلا أنها بدأت تنحسر مؤخراً وبشكل ملحوظ، نتيجة لارتفاع مستوى الوعي الثقافي بين أبناء المحافظة، ولكن تبقى العبرة في أولئك الذين اكتووا بنار زواج الأقارب.

ومنهم عائلة السيد "محمد رجب الحسّيان" من بلدة "الهبيط" غرب مدينة "خان شيخون" بسبعة كيلومترات، والذي يلخص تجربته المريرة مع زواج الأقارب في حديث لموقع eIdleb الذي زاره في منزله، حيث يقول: «زوجتي من أقربائي وزوجت ولدي من بنت أخي فكانت النتيجة ثلاثة من أبنائي وأحفادي مصابين بأمراض وعاهات مختلفة، فهناك فتاة مشلولة شللاً شبه كامل، وصبيان الأول منغولي والثاني يعاني من ضعف حاد في البصر، صحيح أن كل شيء قضاء وقدر، ولكن نسينا أن لكل شيء سبب، وأن الرسول الكريم يأمرننا بأنّ نعقل ونتوكل، أعترف بأني عندما زوجت ولدي الكبير لم أكن أقتنع بكل ما يقال عن زواج الأقارب، أما الآن وبعد أن شاهدت النتيجة في أبنائي أنصح الجميع بالابتعاد عن الأقارب عند تزويج أبنائهم، وأنا بعد هذه المأساة وصلت لقناعة بالإقلاع عن هذه العادة، لأن الثمن الذي سيدفعه الأبناء من صحتهم أكبر بكثير من اللوم والعتب الذي قد نتعرض له جراء تزويج أبنائنا في غير أقاربنا، لذلك قررت بحزم أن أزوج أولادي الآخرين من غير أقاربي».

هناك أمراض دموية كـ"التلاسيميا" و"فقر الدم المنجلي"، وأمراض المناعة الذاتية عوز مناعي والذي يسبب نقص مقاومة الأطفال وتعرضهم لمخاطر أمراض أكثر من الأطفال العاديين، وأمراض استقلابية مثل "الداء الليفي الكيسي" والذي يسبب التهابات صدرية ومعوية، وداء "بيلة الفينيل كيتون يوريا" والذي يسبب مضاعفات ومشاكل عصبية وتنفسية واستقلابية، وداء "الكالكتوزيميا" والذي يسبب ضخامة الكبد واختلاجات ونقص سكر في الدم

الدكتور "أحمد أبو راس" الباحث في علم الاجتماع، تحدث عن أسباب هذه الظاهرة من وجهة نظر علم الاجتماع بالقول: «ظاهرة زواج الأقارب هي ظاهرة قديمة ومازال هناك آثار وامتداد لهذه الظاهرة في وقتنا الحاضر، وهي من الظواهر المعتلة في المجتمع، وتقف وراءها أسباب عديدة فمعظم الذين يتزوجون من أقاربهم يهدفون من ذلك إلى تشكيل عزوة اجتماعية قوية متماسكة، وتشكيل أسرة كبيرة من الأقارب مرهوبة الجانب، حيث كانوا يتباهون بكثرة عدد أفراد العائلة من الأهل، أسباب أخرى منها الحفاظ على الحيازات الزراعية، بحيث تبقى الأراضي الزراعية ملك أبناء العم ولا تنتقل لإنسان غريب، ولعل هذه الظاهرة ترتبط بجملة من المتغيرات، أولى هذه المتغيرات هو العامل الثقافي، فالضعف الثقافي له دور هام ومؤثر في إقبال الأهل على تزويج أبنائهم من أقارب لهم، ولعل هناك دافعاً اجتماعياً هو من أجل زيادة لحمة العائلة والتقارب الأسري بين أفرادها، وهناك عامل ثالث عندما يتم التزاوج من الأقارب فإن الخلافات يمكن تفاديها ببساطة، أيضاً ضمان عدم حدوث تعدد للزوجات لا سيما إذا كان الشاب متزوجاً من قريبة له، لوجود ضوابط اجتماعية تمنعه من الزواج، وكذلك طبيعة العمل الريفي والوضع الاقتصادي المعتمد على الزارعة، حيث اندماج الأهل مع بعضهم في العمل الزراعي، فهناك تقارب عائلي كبير جداً بين الأقارب، وكأن هناك قناعات عند الأهل بأنه أصبح من الواجب الأخلاقي والاجتماعي أن يزوج ابنه من قريبة له، وعندما يفكر بتزويجه من عائلة بعيدة يكون هناك نوع من الشرخ الاجتماعي بشكل أو بآخر في هذه العائلة».

السيد محمد رجب الحسيان

وعن مدى مواكبة جهود البحث العلمي الاجتماعي لهذه الظاهرة يقول الدكتور "أحمد": «لم تعط معظم الظواهر الاجتماعية السلبية في المجتمع ومنها ظاهرة زواج الأقارب حقها من جهود البحث العلمي، ولعل هناك تقصيراً من قبل المؤسسات الثقافية والعلمية في تسليط الضوء على هذه الظاهرة ومنعكساتها، لذلك أدعو كافة الجهات البحثية لتعزيز جهود البحث العلمي بهذا الاتجاه، والتعاون مع وسائل الإعلام المختلفة في التنبيه لمخاطرها، إلى جانب الدور المهم والأساسي الذي يمكن لرجال الدين أن يمارسوه من خلال دورهم المؤثر في التنبيه لمخاطر هذه الظاهرة صحياً على الأبناء، ونحن بدورنا كباحثين في علم الاجتماع ومن خلال دورنا في الجامعات والمدارس ومن خلال نشاطاتنا، نوجه بشكل أو بآخر للابتعاد عن هذا النوع من الزواج الذي ثبتت سلبيته علمياً، فالحقيقة الدافعة والعلمية أن تزاوج الأضداد يولد الجديد والمبتكر وتزاوج المتشابهين يولد نفس النوعية دون أي تجديد».

الدكتور "محمد العمر" رئيس قسم الأطفال في المشفى الوطني في مدينة "معرة النعمان"، شرح لموقع eIdleb أهم الأمراض التي تنتقل إلى الأطفال بسبب زواج الأقارب قائلاً: «هناك أمراض دموية كـ"التلاسيميا" و"فقر الدم المنجلي"، وأمراض المناعة الذاتية عوز مناعي والذي يسبب نقص مقاومة الأطفال وتعرضهم لمخاطر أمراض أكثر من الأطفال العاديين، وأمراض استقلابية مثل "الداء الليفي الكيسي" والذي يسبب التهابات صدرية ومعوية، وداء "بيلة الفينيل كيتون يوريا" والذي يسبب مضاعفات ومشاكل عصبية وتنفسية واستقلابية، وداء "الكالكتوزيميا" والذي يسبب ضخامة الكبد واختلاجات ونقص سكر في الدم».

الدكتور أحمد ابو راس

ويضيف الدكتور "محمد العمر": «هناك أمراض هضمية مثل "الداء المعوي الفاقد للبروتين"، و"داء هرشببرنغ" الذي يسبب اضطرابات في وظيفة الكولون، إلى جانب الأمراض الكلوية مثل "حمّاض أنبوبي كلوي" حيث يسبب اضطراباً في تحميض البول وفي توازن الحامضي القلوي في الدم، و"داء السيستي نوز" والذي يسبب اضطراباً في التوازن الحامضي القلوي في الدم، ويترافق أحياناً بحصيات بولية، وهناك أمراض غدية كـ"قصور الدرق الولادي" و"المتلازمة الكظرية التناسلية" وهذه الأمراض تسبب فشلاً في النمو، ولا ننسى الأمراض العصبية مثل الشلل الدماغي، والذي قد يترافق مع ضعف في البصر أو فقد كامل للبصر، أو ضعف في السمع أو فقد كامل له».