لم تكن مشكلة العمل الهندسي في سورية يوماً متعلقة بعلم الهندسة نفسه، فلا مناهج الجامعات السورية كانت عائقاً، ولا قدرة ورغبة المهندسين السوريين بالتعلم والعمل كانت ضيقة، لا نقص في الأدوات، وآليات التفكير، لا مشكلة لدى أحد في أن يعمل المهندس ويبدع، لا القانون ولا القائمين على القانون.

الفساد لوحده لم يكن عائقاً أمام نمو الإبداع الهندسي السوري، بل ربما وببعض الشجاعة والطرافة يمكن القول أن الفساد والرغبة بالتحايل على القانون والعقود والتعليمات، كان عاملاً في تنشيط خيال بعض المهندسين، ودفعهم للإبداع في استخدام مواد مختلفة ونسب مواد أخرى مختلفة، وحلول هندسية متنوعة. أي بمعنى آخر دفعت رغبة بعض مهندسي الإشراف بمشاركة المقاول في أرباحه، إلى إبداع حلول هندسية غير واردة في دفتر الشروط وفي الكودات المعتمدة، وفي العقل الهندسي التقليدي.

من حيث المناهج في الجامعات لم يكن هناك مشكلة، والدليل أن في العمل الهندسي السوري كثير من خريجي جامعات عالمية مرموقة، لا يختلف أداؤهم في كثير من المفاصل عن خريجي جامعة دمشق وحلب وحتى تشرين.

من حيث القدرات الشخصية للمهندسين لا أظن أن الموضوع قابل للنقاش، فكثير من المهندسين السوريين أبدعوا وتفوقوا في غير مكان في العالم، وفي غير مهنة أخرى انتقلوا إليها بعد يأسهم من العمل في الهندسة، وهذه المهن لا تنحصر في التجارة او الأعمال، بل تمتد حتى كتابة الأدب والرسم، والتمثيل في بعض الحالات.

القانون والتعليمات ليست بحد ذاتها المشكلة المعيقة للعمل الهندسي، وإن كانت مربكة ومقيدة ومتناقضة.

وبرأيي المتواضع أن آلية التفكير التي تحكم عمل الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، كانت العائق الأساسي الذي ساهم في عدم تقدم العمل الهندسي في سورية، وشكل حاجزاً بين المهندسين السوريين وبين الإبداع والتكيف والتأقلم مع ما تفرضه ظروف العمل، ومفاجآت المشاريع.

فان تكون مهندساً يقتضي عملك تطويع الطبيعة، وإبداع الحلول، والخروج عن المألوف، يفترض أن تعمل وأنت محاط بجو من الحرية والثقة، أما ما فعلته الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش منذ تأسيسها وحتى الآن فكان نشر جو عدم الثقة، وإحاطة الشركات والمؤسسات السورية والمهندسين العاملين فيها بسوء النية.

من المفهوم أن تتحلى جهة رقابية أو قضائية بالشك، وأن تفترض سوء النية في تعاملها مع الجميع، فسلطتها المستمدة من الحرص على المال العام، تحتم عليها أن تكون صارمة وشديدة وذكية في تعاملها مع من يمدون يدهم على المال العام، ويجب كذلك ألا يتمكن أصحاب الأيدي المتطاولة من خداع هذه الهيئة ومغافلتها.

لكن غير المفهوم هو اعتبار كل من له علاقة بالمال العام فاسداً سلفاً، ومعاملته بريبة وشك، والتحري عن كل كلمة تقال، وكل اقتراح يطرح، وكل عينة تؤخذ، وكل توقيع يخط، وكأنها إخبار قضائي.

المهندسون السوريون مؤتمنون هذا العام على 375 مليار ليرة، وهي قيمة الميزانية الاستثمارية للدولة، أي هي المبالغ التي سيوقع المهندسون على أوامر صرفها وفقاً لما يرونه ووفقاً لما يقتنعون به.

فالبلد الذي يأتمن مهندسيه على نصف ميزانيته، وعلى مستقبله ونهضته، لا يجوز أن يبيح لجهة ما أن تعامل كل مهندسيه كلصوص مفترضين.

كما لا يجوز أن يكون حرص الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش على المال العام عاملاً يحول الهندسة السورية إلى علم معاق.

* خدمة زمان ميديا