هل رأى أحد في أي مكان إبهاراً جمالياً صاخباً في فصل الربيع، يشبه ما هي عليه هضاب معرة النعمان المتفورة بالحياة؟ هذه الروعة استحقها إله الخصب في أسطورة عودة الخلق وتجدد الطبيعة، والكلام للروائي عبد العزيز الموسى أثناء لقاء موقع eIdleb معه في مدينته كفرنبل، التابعة لمنطقة معرة النعمان.

هذا اللقاء الذي كان مفعماً برائحة الأرض التي تناولها الموسى في أكثر من دراسة ففاح الموسى بهذا الحوار.

*في دراستك التي تناولت فيها المعري تولي لبيئته الطبيعية اهتماماً كبيراً، ألأنك تنتمي لهذه المنطقة؟

" بالتأكيد، ولأنّ الجغرافيا عامل حيوي في تحديد ملامح الشخصية، وهي تقوم بوظائف معينة لا تتكرر في بيئة أخرى، و تتفق مع طبيعة بعينها مما يؤدي لوجود عادات وسبل تفكير ولغات وأعراف وتقاليد وفنون وآداب، تلائم هذا المناخ أو هذه التضاريس المشكّلة للسمات الجسدية وطرق السكن واللباس والمآكل، والتي تشكل أيضاً سماتنا النفسية، وتتشكّل بذلك سبل التحريم والإباحة كنماذج ثقافية هي في حقيقتها انعكاساً لوسط فيزيقي غير مرئي، يتدخل العقل والدين فيقصان ويضيفان.

فالأرض بكل ما هي عليه ليست بذات قيمة إلا بكيفية استثمارها، أو كلما سمحت المعتقدات بذلك حتى أضحت الفروق مع الوقت لا تعود لعوامل جغرافية كما نظن بقدر ما تعود لعوامل نفسية ظاهرة ومتداولة كالقصص والأساطير عبر الرمز، وخاصة حين لا يستطيع الإنسان رداً لقهر غوائل الطبيعة التي لا تبدو مفهومة له، وتمثل حالة تهديد غير حيادية تتسلط على حياته وجسده ورزقه وعياله. يجابه الإنسان هذه الغوائل غالباً بتمنيات سحرية أو خرافية ليعدل مسارها لصالحه، وأحياناً يتخيلها تعاقبه أو تنتقم منه لذنوب ارتكبها.

"قاطعته": إذاً للمكان روحه الخاصة التي تتسرى في قاطنيه وتمنحهم ملامح شخصياتهم المتفردة, فهل تتفرد المعرة بهذه الروح، والتي تمثّل حاضناً طبيعياً لساكنيها؟

"نعم فالمعرة تقع على تخوم هضبة الزاوية الجنوبية الشرقية، وهذه الهضبة شكلت فيما مضى غابة من البلوط والبطم، والذي يعتبر أساس شجرة الفستق قبل تدهور الغطاء النباتي بالرعي الجائر والاحتطاب. بين جيوب هذه الصخور ووديانها تربة حمراء عميقة صالحة لزراعة التين والكروم، وتمتد جنوباً عبر وادي الهرماس الفاصل بين الهضبة والمنطقة البركانية مشكلة سلسلة من هضاب خصبة مزروعة بالأشجار يغلب عليها الزيتون الذي يرتفع مع الهضاب، وكلما اصفرت التربة فيها تقل أشجار التين مع الكروم التي ما زالت ثمارها مرسومة على البوابات والواجهات منذ آلاف السنين، وهي شاهدة على استمرار هذه الزراعة وعراقتها المعززة بآلاف المعاصر الأثرية للزيت والدبس بشكل لافت، بما يؤكد أنهما مع التين المجفف أساس غذاء أهل المنطقة منذ القديم، إضافة للقمح على السفوح المتموجة والعدس والحمص والشعير، وأما باقي الأرض فكانت عبارة عن مراعي .

ساعد هذا المناخ المتوسطي نصف الرطب ونصف الجاف وبنسبة أمطار مقبولة لإنبات غلاّت محددة وساعد على توطين هذه الرقعة من الأرض التي تتنوع تربتها ما بين الحمراء والسوداء والصفراء، مشكّلةً خلفية طبيعية مع درجات حرارة ونسبة هطول شبه ثابتة، صياغة نهائية لمزاج السكان وطباعهم، كما شكلت هيئاتهم البدنية الرشيقة المتكيفة مع وعورة المكان، وشكلت طاقاتهم العالية في احتمالهم المكاره الاجتماعية والطبيعية الشغالة منذ آلاف السنين".

*وكيف تفسر هذا الازدحام المبكر على هذا القفر الناشف منذ خمسة آلاف سنة وفق التواريخ المدونة على الأقل، ما سرّ تراص الناس فوق هذه الصخور الواطئة ؟

"نعم هذه حقيقة، فثلث آثار سورية في هذه المنطقة، وليس ثمة متر لا تتعثر فيه بحجر مشغول أو حائط أو جرن أو بئر أو قطعة فخارية أو رائحة إنسان أو تل موصول بتلال. ما من شبر لو حفرت فيه إلا وتخرج لك منه آبدة أثرية. حيث تدق بقدمك فأنت تدقها فوق بشر نائمين مع حكاياتهم ومآسيهم وأحلامهم وآلهتهم وكتاباتهم ولغاتهم. هذه التلال ليست غير قرى أو مدن طمت فوق بعضها بالهدم والحرق أكثر من مرة فصارت تلالاً. باحة مسجد المعرة الشهير أو الذي صار باحة المسجد، ونهبط إليها اليوم ببضعة عشر درجة كان يصعد إليها بمثل هذا الرقم، مما يرجح أن بضع معرات مطمومة تحت المعرة، وما نراه هي آخر معرة تجلس على معرات تحتها".

*لكن لماذا تكاثر الناس بين هذه الهضاب القفراء وعافوا السهول الخصبة ومياهها الوافرة والتي لم تستوطن إلا في أزمنة متأخرة؟

" معك حق، فتحت هذه الأرض متحف بشري، وحضارات نائمة، وصروح ومقابر، ومدن، وأساطير، ولغات، وأنماط عيش، وحروب ودمار، وأغاني نواحة مشغولة بالمآسي والدموع. جزء هام من الدنيا نهض من هنا، وتوزع في الأقاصي، فهذه المنطقة يشترك فيها الماء والهواء بعذوبة نادرة، وهناك مذاق مميز ينعكس في نكهة فواكهها غير المتكررة، ومشتقات ألبانها الزكية، لا ألذ على سطح الأرض كلها لمن لف ودار الدنيا من هذه النكهة، ولن تجد على المعمورة ما يكافئ نباتاتها النادرة، وبطيخها وسمنها ولبنها ولحومها وتينها وزيتها ودبسها.

*- شهقة خاصة موهوبة لهذه الأرض وحدها، كيف اجتمعت كل هذه الخصائص، وكيف توالفت مع بعضها؟

"لا يعرف ذلك إلا أهلها المولهين بها ولو هم على أطراف الدنيا, فما أن تسنح لهم فرصة العودة حتى يهرولوا نحوها دون وعي أو تفكير.