في الدراسات التاريخية التي تناولت تاريخ معرة النعمان، ليس هناك ما هو أشمل وأنضج من الدراسة التي قدّمها الروائي المعروف عبد العزيز الموسى في مقدمة دراسته عن المعري، حيث كانت وبحق مثالاً لدراسي التاريخ، وأسلوباً مبتكراً غفله أو تغافله الكثيرون.

eIdleb التقى بالروائي عبد العزيز الموسى، وكان السؤال عن معرة النعمان؟

فأجاب: المعرة أقدم بكثير مما جادت به قرائح المؤرخين العرب، عاشت حضارات سورية من الرافدين حتى الساحل مثل غيرها، ودفعت ضريبة الحرق والهدم أكثر من غيرها لأنها غير محصنة ومفتوحة على كل الجهات، ولم تملك يوماً قدرات خاصة تدافع بها عن نفسها.

الثقافة السائدة منذ ثلاثة آلاف سنة على الأقل هي الآرامية السريانية وهي لغة المنطقة وما تزال بقاياها في لغتنا المحكية، فنحن لا نقول القمح ولكن نقول "الحنطة"، ولا نقول أرض غير مروية ولكن نقول أرض بعل لأن السيد بعل تكفل بإروائها ونقول شكارة "عن كومة الحصاد"ونقول شلف" أي رمى"وشمط " أي نزع" وشفى، وكبس، ودعك، وجرجر ودلف "عن ماء المزراب" ودقر، وفرط، ودندل، وشحط، وشفط، ورص وشقف، وجهجه، وملش، وقرقش، وكعر، وشحل، وطمش، ونط، وبشط، وهبل، كما نقول شربوكة، ودليلة، وكوشه، وفقيع، وزاح وعلى هذا المنوال الآرامي.

إذاً أنت تعيد اللهجات المحكية إلى الآرامية؟

نعم فالآرامية تسيدت الإفهام والمعتقدات والأسماء، هات لي أرض أو مدينة أو جب أو واد أو جبل أو نبع أو سهل أو حكمة أو حتى نبات، غير آرامي. أصلاً بات الأكاديميون في العالم يميلون للإقرار أن لا إسم في حضارة الإغريق جذره غير آرامي سرياني حتى الإغريق تسمية آرامية من الجريق وهم سكان الكهوف، وباعتبار اللغة هي الفكر، والفكر صدى الطبيعة فقد شكلت الآرامية مفاهيم وآليات في النطق والتفكير وصياغة الجمل والعقائد الأرضية.

وكيف تقيّم الثقافة الآرامية وكيف تميّزها اليوم في هذه المنطقة؟

الآرامية ثقافة عريقة نائمة تحت قشرة المكان، وقد شكلت بنى نفسية تحتمل الآلام وتصبر لشدة ما عاقرت من أهوال، ولكنها عجزت عن التصدي.

لنتجه غربي معرة النعمان إلى البلدات والقرى" كفرومة , حناك , حاس , كفرنبل معرتماتر, سفوهن , كفرعويد , فطيرة , معر زيتا , بلونس , معر تحرمة, كلها آرامية مع سهولها وآبارها ووديانها وكل ما فيها , فمعرتحرمة مثلاً هي مغارة حرم إيل والحرم من الحرمة وإيل هو الإله والمغارة متكررة كثيراً، وهي من ميعرة أو ميغرة الآرامية السريانية وهي مكان للسكن وللدواب، كما الأمر بالنسبة لمعرة النعمان أي مغارة النعمان، والنعمان أو نعمو أو نعوم، هو أحد أسماء إله الخصب أو أدنى، ومنه شقائق النعمان الحمراء التي تمثل دم الإله المقتول آخر الصيف والعائد للحياة بزخم قوي وبديع في بداية الربيع، ومن هنا تكرر اسم النعمان كثيراً.

نعرف أن هناك من نسب المعرة للعر أوالعار أو الشنار أو العرّة أو الجرب أو الأمر الشنيع أو البكاء على طفل مفقود في المكان الذي كان أجمة قصب حيث وقعت الفجيعة، وكانت المعرة مكانها؟

إذاً هناك حدث استدعى التسمية منسوب للنعمان ابن بشير الأنصاري المعروف أو النعمان بن عدي الذي يمت له أبو العلاء بقرابة، لا أعرف إذا ما كان هذا الأخير من أسرة عمر رضي الله عنه، والذي ولاّه عملاً في ميسان وقال في شعره :

لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا في الجوسق المتهدم

فساء ذلك عمر وعزله .

أتصور أنها مجرد تلفيقات لغوية لمؤرخين تراءى لهم أن التاريخ بدأ بمعاوية وباللغة العربية التي يؤولون فيها ويلفّقون، وأتصوّر انه يصعب على لغة صعبة كالعربية أن تسود وتتفوق على لغة سهلة كالآرامية، لولا القرآن الكريم الذي حملها.

يقولون لنا إن في بلاد الشام كلها أحد عشرة معرة، وفي شمال سورية معرتان "هذه للنعمان" وتلك"معرتمصرين "اللتين اختصتا بمناسبات العار والشنار من القزويني، لابن العديم، لناصر خسرو، وحتى ابن بطوطة، والزبيدي مؤكدين على الفجائع والأحزان والعار في الدلالة، لكن ما عسانا نفعل أو نقول إزاء معرّات مبذورة حولنا كالفطر، كيف سنفصّل لها مناسبات ؟

من باب المثال يفد على ذاكرتي بأذيال قريتي التي لا تبعد أكثر من عشر كيلومترات عن المعرة الأم ما لا يعد من المعرات مثل : "معرشمشة، معرشورين، معرشمارين، معرجلع , معرتموخص , معرتلبا , معرةالصين , معرتحرمة , معرزيته, معرتماتر , معرسخاتا , معرتحون"، وهذه الأخيرة مثلاً واد صخري على كتفيه مغائر منحوتةٌ غرفها وأعمدتها وشرفاتها، وتطل على الوادي من جهتيه، ماذا لو ابتعدنا عن قريتي عشر أو عشرين كيلومتر هناك ما لا يعد منها، ليس الأمر عاراً ولا شناراً، لكننا بطبيعتنا ننحاز للمألوف السهل وما اتفق مع عواطفنا المجلة لتراثنا ولغتنا دون تفكير.