جرحُ هذا الليل موسيقا ..فمن غنى لأبكي؟ يا قفا نبكي ويا دارة جلجل..وتلفّت إلى قلبي ..فلم أبصر على أغصانه ورقاً..تناجيني ولا ظلاً لبلبل.

الشاعر محمد الشيخ علي، وأنْ كفى، قالها يوماً رافعاً يده للشاعر المسكون بهواجس الحواكير، وبكل شغب العصافير وهي تحطُّ على الصباح الندي حين يكون الأنف وحده المعني بفهم الحياة، لأنّ المكان في كنصفرة (بلدته) يتضوع عطراً وشذاً بأشجار الكرز والمشمش والمحلب، ويتيه مع الخطوات التي خطاها فلاحٌ خلف (فدّانه) يحثّ الخطى خلف الذكريات، فالذاكرة وحدها تورّث، نعم تورّثْ.

فأنا لم أر جدي قالها (محمد): كان يذهب إلى (مغارة العرقانة) حاملاً زوادته على كتفه، وأمامه خوفه من جنيات الليل وبقراته، ومن كل الحكايات التي سكنت أذنيه يوماً. خلف شجرات الكرز تلك المتموضعة على أعلى تلّةٍ كانت حدود الكرة الأرضية، وخلفها فقط كان ينتهي النهار، وتعمُّ الظلمة وجلبة الجنيات على العالم الأرضي، ولم أدرك إلا لاحقاً حجم الفاجعة أن الشمس لها مساحات أوسع بكثير من حدود قريحتي، لم أدرك إلا لاحقاً معاناتي مع المساحات الشاسعة للذات البشرية، وأن هناك آخرون لهم هواجسهم ومخاوفهم (آه) ما أصعب أن تكتشف أن الحياة ليست لك وحدك. وفيما بعد اكتشفت التوق الذي يربطني بالشياطين التي ترجمها النجوم، وهي تتسلق فوق بعضها بعضا، لاستراق السمع عما يدور في السماء السابعة بين الله وملائكته. أأكون أنا الوحيد المسكون بهواجس البحث عن الفهم؟

وأخيراً قيل جاء

لم يواكبني بيان في الإذاعات

ولم تعلن جريدة

حينما فاجأتُ دنيايا بأسبوع بكاء

وككل الأمهات العاملات

ولدتني في الحصيدةْ.

عيد ميلاديَ مجهولٌ، ولكني كبرتُ

غير أني رقم لا يتكرر في سجلات النفوسْ.

أبو عبدو في المسجد، قالتها لي زوجته، وأردفت تفضل سيصلي ويعود. ولأنّ المسافة بين منزلي ومنزل الشاعر لم تتعد مساحة هاجس المشتاق لشاعر طوّع العشق بين يديه، قطعت الكيلومترات الطويلة بالشوق لصديق مرً زمن ولم ألتقِ به. الشاعر النزق العاشق التائه أدرك أن زليخة أرادت عشق الجمال لا عشق الزائل المخلوق حتى ولو كان من الأنبياء. لم تتخلَّ زليخة عن يوسف، ولم يتخلَّ محمد الشيخ علي عن شعره.

للعشق فلسفة يدركها أصحاب الكرامات، حين يصير الحديث عن السلطان إبراهيم بن الأدهم الذي ترك سلطانه وهام في حبّ الله، ولن نترك ابن الفارض ولا -رابعة العدويّة، ولامحمد الشيخ علي.

أصلي كلّ الصلوات في المسجد يقولها محمد ويتابع:

أنا أقطف مكافأة عندما أسجد لله في المسجد، أنا لم أكافأ يوماً رغم كلّ ما قدمتْ. لذلك أنا أتعطش للمكافأت، قلت لخالق الذات والمعنى: لك المعنى وأنت لديَّ ذاتُ ولي صوتٌ وأنت له لهاةُ

وأنت القوس والرامي وسهمي وتصويبي ونصلي والجهاتُ، يقول الإنجيل (قالها أبو عبدو): في البدء كانت الكلمة، والكلمة كلمة الله وكلمة الله هي الله ذاته".

إذاً أنت مع الرحيل إلى صومعة السلطان إبراهيم للترنم بعشق المطلق؟

يصمت أبو عبدو و يجيب:

ولي جسدٌ جنت روحي عليه...

ويبكي فوق جثَّته الجناةُ

ولي نفس يخيب الظنّ فيها ...

ويصدق حيث يحتار القضاة

أتذكر قصيدتك (سألته)؟

هاتِ يديك عودي

فقد سئمت كفي المناديلُ

ونام ليلي فهل تصحو القناديل

*من هو الشاعر الذي لبى رغبتك بالقبض على اللغة؟

" المتنبي بلا منازع، وحده بلا منازع، ووحده استطاع أن يفجّر عبقرية اللغة ووحده كان مسكونا بروح كبرى، ربما أكبر من المفردات، وكان مسكونا بالذات لدرجة رآها تصلح لأن تكون محور الكون، أما قال: وكم من جبال تشهد أنني الجبال وبحر شاهد أنني البحرُ".

*ومن شعراء إدلب من يكون؟

"شعراً: ما أكثر الشعراء اليوم في بلدي، وما أقل حصاد الشعر إذا بذروا، ولولا شاب رحل عن إدلب وهو منها (مواهب مناع) لقلت ليس هناك شعراء بل محاولات قد ترقى يوماً إلى الشعر".

*وأي الروائيين (وأنت القارئ) أوصلك إلى ذاتك؟

"عبد العزيز الموسى وحنا مينا".

وعلى صعيد القصة؟

"ليس هناك قاص مبدع أكثر من تاج الدين الموسى الساخر أبداً حتى البكاء".

من الجدير بالذكر أن محمد الشيخ علي هو من مواليد إدلب /1951/م بلدة كنصفرة التي تبعد أكثر من ثمانية عشر كيلومتر غربي ضريح أبي العلاء المعري، يحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق /عام 1975م / له خمسة دواوين شعرية مطبوعة هي (طرائد سانحة، فضاء لنجمة مستحيلة، مقلوب البكاء، كي تكوني، جغرافية الأنهار).