الروائي عبد العزيز الموسى صاحب تجربة روائية عريقة، صدر له العديد من الروايات منها عائلة الحاج مبارك- التي فازت بجائزة نجيب محفوظ- ورام الجوخي، بغل الطاحون، الغراب الأعصم) كما نال العام المنصرم جائزة مجلة دبي الثقافية عن رواية "كاهن دورا".

*ماذا يمكن أن يحكي عبد العزيز الموسى عن تجربته الإبداعية، وخاصة عن بدايات الغوص في العالم الروائي؟

ـ البدايات، كشأن كلِّ البدايات، هي عبارة عن محاولة دائبة عند الإنسان، لمحاولة القبض على مفاصل موارة وحية في فترات مبكرة تصاحب بدايات تشكل الوعي عند الكائن البشري، وهذا الهاجس، يستطيع من يعبر عنه أن يحس بالقرابة مع الحياة، والمصالحة مع المشاكل.

أنا كنت كغيري، أدمن منذ البدايات كتابة الخواطر واليوميات في صفحات طويلة منمقة تتطرق بالحقيقة ليس ليومياتي، ولكن للتماس مع مشاكل الخلق والوجود والبحث عن التوازن، وكان هذا الفعل اليومي، هو الذي شكل تحريضاً دائباً للتعبير عنه بطرق وأساليب مختلفة.

أغلب المادة الخام التي يتم احتطابها في هذا المضمار من قراءة سلوك البشر اليومي سواء في المساجد، أو في الأزقة، أو في الكتاب، أو في السهرات، وعلى أبواب الدوائر الحكومية، وخاصة قراءة السحن المسحوقة بالهم والرغيف.

إنّ القراءات المبكرة المطولة لكل أشكال الفكر والثقافة والأدب، والرغبة في التعبير عن هذه الحالات، والتجوال خلف الرغيف وسبل العيش والسفر، أضاف تشكيلات جديدة لهذه التجربة.

*البعض مسكون بفكرة مساعدة الخالق في تطوير الحضارة أين يقف عبد العزيز الموسى من هذا الكلام؟

ـ أنا لا أشارك هؤلاء الرأي، لأن حالات الخلق والابداع عصية على النوال بالنسبة لهمة بشرية واحدة، على أن الأدب ليس إلا جرعة من الأخيلة التي تسبح في محلولها مفارقات اجتماعية تطفو مرة، وتغوص مرة فيلتقطها القارئ الحاذق، ويتشممها المريد بلهفة عالية، أي إنها ليست إلا بضعة قروح داخلية نريد تصريفها، لإعادة التوازن مع المحيط، ومحاولة إلباسها حلل اجتماعية، وعاطفية، وفنية، وكلُّ روعتها تكمن في قدرتها على إبداء الوجه المخفي من الشخصية التي يحتفظ بها كل إنسان، ومحاولة كشف الأستار عما يدور داخل الغرف، وداخل الرؤوس بأدوات غير خادشة، وغير موجعة، ولكنها تريح القارئ وقت يكتشف أنه ينطوي على مثل هذه الآفات في داخله، والتي كان يزجرها، ويعتبرها من الممنوعات المشوهة، ويشعر بالنشوة، وهو يراها تسرح على صفحات الكتاب، أي إن الكتابة الإبداعية ليست سوى تقديم مالا يتداوله الناس في المدرسة، في المسجد في النادي، في وسائل الإعلام، وتقديمه في أطباق لامعة تشدُّ وتجذب، تعطي وتمنع، تظهر وتخفي، مما يجعله منسراً دون توقع منه تُصاحب بمتعة للكاتب والقارئ على السواء، أيّ إنها ليست خلقاً جديداً للعالم، وإنما هي كشف رقيق عن معمياته ومخفياته بصورة لايمكن مقاومتها.

*رواياتك كما هي عند جبرا ابراهيم جبرا تزخر بعشرات الشخصيات أهو قلق وجودي يدفعك للغوص إلى عشرات الشخصيات في بحر واحد "بين دفتين"؟

ـ ليس الموضوع قلقاً وجودياً، ولامصطلحات، ولافزلكات نقاد كلُّ ما في الموضوع أن هيمنة، وغلبة المسار الفكري في أعمالي الروائية التي أراها دائماً تحمل العصي، وتغضب، وتقاتل، وتستشرس، وتدافع عن لقمة العيش وتكذب، وتخون، وتزوِّر وتنافق، وتدعي، وتتسلط، وهذه الأمثلة نراها عياناً في الشارع، في البيت، في المؤسسات، في كل مكان من حولنا بكل وضوح، وهذا الجانب الفكري الذي يحاول أن يتماهى مع قضايا اجتماعية وفنية تتسع بمساحة الأدوار الزمنية والجغرافية للمنطقة العربية، وحتى يمكن تقديم فكرة أو رؤية أو أيديولوجية أو انطباع شخصية مخصيّة لابد من وجود عوامل، وأدوات حفر وعمق في القاع، وإحاطة بشخصيات جانبية ثرة تساعد كلها في محاولة تقديم هذه الشخصية أو هذه الفكرة.

*ثربانتس لم يعش حياة دون كيخوته، ودانتي لم يعش أيضاً الكوميديا الالهية، ولاجوته عاش أحداث فاوست مروراً بزكريا تامر الذي لم يعش مع نمورة في اليوم العاشر. لماذا تصر أنت على أن تعيش مع شخوصك؟

ـ يتراءى للقارئ أنني في كلّ رواياتي، وأنا البطل، لكن حقيقة الشخصية التي أضعها في ذاكرتي ليست مفردة، أو يمكن أن أقول هذه هي، بل ليست سوى مجموع من الشخصيات المنبوشة من مناجم متعددة، لتتسق مع الخط العام للغرض الروائي، والرؤية والفكرة المراد توصيلهما، إذاً ليس ثمة شخصية محددة، بل هناك مجموعة من الاحتمالات، والتفريعات التي تشكل وتنسج تلك الشخصية أو هذه.

* ماذا تقرأ هذه الأيام؟

ـ منذ بضع سنوات تدنت حالة القراءة لدي إلا ما ارتبط بالقضايا الطيارة والرغوية، واكتشفت أن هناك ميلاً للتسطيح في كل ما كان ينتابني أي إنني صرت ميالاً أكثر باتجاه اللامبالاة والدعابة، والاستخفاف والنظر للعالم كنكته كبيرة جداً، لكنها مؤلمة لاتستحق كل هذا الوجع، أجلُّ ما أقرأه هو الوجوه التي أراها وألتقيها، وهي مغمومة مسحوقة خائفة مشدودة بالبحث عن شروط البقاء، والخوف، والسعي نحو الأمان.