ليس من قبيل المصادفة، اللقاء مع أشخاص أمضوا حياتهم في نعيم العمل الصناعي الحر الذي يعشقونه ويكرسون حياتهم للعمل المضني والمتعب في سبيل حب المهنة وتقديم الغالي والنفيس إليها، لكن الداعي للاستغراب هي قصة هذا الوجه المألوف من مدينة "المعرة"...

وهو السيد "زهير الغريب" الذي عاش وتقلب في نعيم حب مهنته فأعطاها كل ما وجب وأعطته كل ما نذر، وعن هذا عبر في لقاء طويل جمعه مع موقع eIdleb بالقول: «الحدادة هي الحرفة التي عشقتها، ودخلت أولاً مجال العمل الحر بعد الحصول على شهادة البكالوريا العلمي، وتدخلت رغبتي لولوج هذا العمل على حساب دراستي الجامعية»، "زهير الغريب" كان الصناعي الوحيد في منطقته وعن بداية مزاولته لمهنة الحدادة تحدث قائلاً: «كنت أعمل لحسابي الخاص وبإمكانيات بسيطة جداً، نشأت نشأة رياضية وبدأت حياة الرياضة في مراحل الدراسة، أكملت دراستي في مجال الرياضيات في جامعة "حلب"، لكن شغفي لمواصلة العمل المهني جعلني أغادر الجامعة مرات عديدة، وبعدها التحقت للعمل كموظف في حقول نفط "الرميلان" وتم ندبي بعد ذلك إلى حقل نفط "حواري" وأنشأت ورشة عمل حدادة فيها، أديت واجبي في الخدمة الإلزامية وفتحت ورشة حدادة في "المعرة"، وكان ذلك في عام /1978/.

المصلحة هي بحر علم وعمل وتتضمن الكثير من القوانين والحسابات الهندسية من خلال الرسم المكثف وتنزيل المساقط وقصها

تمثل عملي بتصنيع مكنات الصناعة البسيطة بعد مقارنتها مع المكنات المستوردة من الغرب التي تعتبر غالية الثمن، وكان الهدف من هذا كله تقديم أدوات صناعية رخيصة ووطنية الصنع لسد الطريق على مكنات الصناعة المستوردة باهظة الثمن، وفعلاً نجحنا بذلك وصار مجال ربحنا /1/ بالعشرة فقط من ثمن القطعة الغربية، هنا دخلت إلى الصناعة من أوسع أبوابها، وأنجزت مع مجموعة من زملائي في العمل آلات عديدة داخلين بها مجال التطور، ودائماً كنت ألجئ لتصنيع ما يحتاجه الصناعيون من آلات وأطرح البضاعة في السوق فتلاقي رواجاً كبيراً، وتم اختياري ممثلاً لمحافظة "إدلب" في مؤتمر الإبداع الوطني للإعتماد على الذات».

زهير الغريب قرب مزرعته

صناعة مضخات المياه الكهربائية هي الإبتكار الذي جعل "زهير الغريب" يصنف كمخترع لكن بشكل غير رسمي، وعن ذلك كله أضاف: «في أعوام /88/ و/89/ ظهرت الحاجة لدى مزارعي المنطقة لآلات ترفع المياه من الآبار، بعد زيادة أعداد هذه الآبار وزيادة مساحة الأراضي الزراعية، وبإصراري الدائم على تقديم شيء ما نوعي قمت بتصنيع أول مضخة في القطر على عمق /240/ متر بعرض قدره /4/ إنش وبغزارة /60/ كم في الساعة، وتطورت بعد ذلك إلى عمق /270/ متر وما تزال تعمل في قرية "التح" شرق "المعرة"، ولدي تصاميم مختلفة من الآلات تقارب /150/ آلة، وأبرزها أيضاً "مواسير" التقاط البترول من أعماق الآبار السحيقة».

فجأة قطع الحاج "زهير" البالغ من العمر /60/ عاماً كلامه، ليستذكر بغصة وألم ما جرى بعد ذلك، معرباً عدم تصديق نفسه في أن يصبح مربي أغنام وماعز، وأعاد السبب كما قال: «فترة السبعينات والثمانينات كانت مزدهرة جداً، لكن في منتصف التسعينات بدأت الصناعة بشكلٍ عام تعود إلى الوراء، والأحوال أخذت منحى ً سيئ ً، فلم يتبق سيولة في أيدي الصناعيين، ولم تعد المضخات تعمل كما في السابق بسبب إرتفاع أسعار المحروقات وتدني نسبة الإعتماد عليها، فالزراعة كانت الداعم الرديف لصناعتنا، لكنها غدت في تراجع خلال تلك الفترة، ولم يعد يقدم الدعم المادي للفلاح كما كان، ويوجد سبب آخر أثر على الصناعة وهو تدفق الآلات الصينية رخيصة الثمن وتلك لا يمكننا مضاهاتها أبداً لأن مجال الربح فيها يعتمد على أعدادها الكبيرة وليس على سعر تصنيعها، حاولت بعد ذلك تسويق نفسي كمهني ومخترع في الإمارات والسعودية لأحصل على أسواق أُصَرف بها بضاعتي وأستغل ما تبقى في يدي من سيولة على الأقل، لكن دون جدوى أبداً».

أحد أولاد زهير الغريب في الورشة

يحتفظ الحاج "زهير" بذكريات آلات الصناعة القديمة ضمن مستودع قديم وجهاز حاسوب يحوي مخطط التصميمات التي كان يعمل على أساسها، فالمصلحة كما أضاف أيضاً: «المصلحة هي بحر علم وعمل وتتضمن الكثير من القوانين والحسابات الهندسية من خلال الرسم المكثف وتنزيل المساقط وقصها»، لكنه يحزن بشدة على الوضع الصناعي ويعترف قائلاً: «كنت أميل خلال فترة دراستي الجامعية إلى عمل يعمل به أميون ومصلحة ليست مصلحة أشخاص متعلمين لإرادتي قرن العلم النظري الذي يفتقده هؤلاء بالتنفيذ العملي ونجحت في ذلك بجدارة، أما اليوم فلا يوجد عقول صناعية كما هو مطلوب وصارت المهن لا قيمة لها»، وأخيراً استسلم الحاج "زهير" إلى إرادة ترك المهنة ليشتري مجموعة من الأغنام والماعز ويقوم بتربيتها ضمن مزرعته الخاصة، مبرراً ذلك بقوله: «أحب الإعتماد على ذاتي ولست بحاجة إلى أحد، صحيح أن أحوالي المادية كانت عالية وكنت أمتلك سيارة في فترة الثمانينات، إلا أني اليوم ومع ضعف وقلة ذات يدي أحببت الإكتفاء الذاتي مما تنتجه لي الحيوانات من مشتقات الحليب، لدي /12/ ولداً لم يعتادوا على أسلوب الحياة البسيط، ويعمل أكبرهم مكاني في ورشة الحدادة التي لم تعد تسد نفقاتها».

أخيراً ختم قائلاً بلهجة أمل: «أترقب فرج الله القريب متأملاً أن يتحسن الوضع الصناعي إلى الأفضل، وأنا مستعد لتقديم كل ما يلزم مني لإنقاذ المهنة ومعاودة العمل».

يطعم أغنامه بطريقته الخاصة