«المعمّر "عبد الغني العثمان" أول من سكن قرية "الغدفة"، ويبلغ عدد أفراد ذريته ما يقارب /450/ شخصاً»، هذا ما ذكره السيد "نور الدين العثمان" عن والده المعمّر "عبد الغني العثمان" حين التقاه موقع eIdleb في منزله الكائن في "معرّة النعمان" حيث يعيش مع ولده "نور الدين" الذي تابع بقوله: «للوالد /سبعة أبناء وثلاث بنات/، وأنا أصغرهم سناً وقد تجاوزت /الخمسين/ من العمر، لقد أصبح لجميع إخوتي وأخواتي أحفاد، ولأنّ أغلب أفراد العائلة يحبّذون تعدد الزوجات، فأنا لا أبالغ إذا قلت لك إنّ هذا الرقم يخصُّ حاملي العصي فقط أيّ الذكور».

ثمّ أضاف "نور الدين": «للوالد ذاكرة قوية فهو حافظ للقرآن الكريم، وينظم الشعر المحكي حين يروق له ذلك، فحين حصل العدوان الصهيوني على غزّة مؤخراً تأثر الوالد كثيراً بما شاهده على شاشة التلفاز، وأظنه قد نظم شيئاً عن ذلك، أمّا صحته فالحمد لله جيدة، ولا يعاني ما يعانيه عادةً كبار السن، كالضغط، أوالسكر أو أمراض الأوعية الدموية، وهو يستطيع القيام بكلّ أعماله دون مساعدة من أحد، فهو يصعد أربعين درجة حتى يصل باب المنزل، وهو يحبّ المشي كثيراً، وطعامه مازال تقليدياً (كالمجدّرة، والكبّة) ولا يحبّ شرب المنبهات كالشاي والقهوة إنّما يشرب الزهورات بأنواعها المختلفة».

ياجدّي عبيصحلك جدّك، وندعو الله أن يحفظه وأن يديم صحته

أمّا الحاج "عبد الغني" فقد بدأ حديثه بقوله: «صار عمري مع دخول هذا العام مئة وعشر سنين، فقد عاصرت حكم السلطان"عبد الحميد" و"عبد المجيد" والسلطان "رشاد"، وأذكر أنّهم ساقوا /1000/رجل من قضاء "المعرّة" ليحاربوا اليمنيين، وكان والدي رحمه الله بينهم، وكانت عائلتي تعمل بالزراعة وجمع ما يعرف بملح البارود من الكهوف لطبخه وبيعه».

مع ابنه نور الدين العثمان

الحاج "عبد الغني" ككل المعمّرين الذين نلتقيهم عادةً متلهف للحديث عن الماضي والذكريات، فما أن وجد من يصغي إليه حتى عاد بذاكرته إلى الماضي، ليحدّثنا بإسهاب عن كلّ ما تومض به الذاكرة كقوله: «مرّت على المنطقة سنة جوع لا ترحم حتى صرنا نبحث عن كلّ ماتنبته الأرض كالدردار والخبيّز والسلبين لطبخه مع البرغل، وقد مات كثيرون من الجوع كجارنا "دودان الشحود" الذي مرض وكان يصيح رغيف من الخبز يشفيني، وابنه أيضاً مات من الجوع حين كان سارحاً بأبقار القرية، وفي تلك الفترة من الحكم العثماني القاسي لم يكن أحد يستطيع أن يساعد أحداً لأنّ الجميع سواسية بالفقر والجوع والحرمان».

ثمّ أضاف الحاج "عبد الغني": «عائلتي من العائلات الأولى التي سكنت قرية الغدفة، فقد رحلنا إليها من قرية "معرشورين"، وكانت عبارة عن أراضي زراعية وأبنية أثرية تعود إلى عصور بيزنطية وذلك حوالي /1900م/ فكنت مع ثلاثين عائلة من مؤسسي هذه القرية، وكنّا نحرث أراضينا بالمحراث المعروف (بالفدّان) وحين يأتي موسم الحصاد ننقل المحصول بواسطة الجمال.

بين وولده نور الدين من جهة والشاعر عبد الرحمن الابراهيم

ويستغرق هذا الموسم ثلاثة أشهر، ولم تكن الآلات الحديثة قد ظهرت بعد، حتى أننا لم نكن نعرف العربة الخشبية، وحين سمعنا في القرية عن "ترمبيل" أي سيارة تمشي قال أغلبنا لا يمكن للحديد أن يمشي بدون روح، بل زدنا بالقول: ناقل الكفر كافر، وحتى حين ظهر "الراديو" فيما بعد ووصلنا الخبر قال أغلبنا لاشكّ أنّ أحداً ما يقف خلف الجدار ليتحدّث فلا يمكن لهذا الصندوق أن يتسع لكل هؤلاء الذين بعضهم يتحدّث والبعض يغني».

وما أن سألنا الحاج عن فترة الاحتلال الفرنسي حتى بدأ حديثه عن (الجتا) أي الثوار الذين قاوموا هذا المحتل بقوله: «كان "جبل الزاوية" يغصّ بالجتا وقد هزموا الفرنسيين في عدّة معارك».

وأجاب عن سؤالنا عن أهم الأطعمة والمشروبات التي كانت تقدّم في تلك الفترة بقوله: «كان الخبز إمّا من دقيق الشعير إذا كانت الأسرة فقيرة، أو من الذرة للعائلات المتوسطة وأمّا القمح فللأغنياء، وكان طعامنا (مخلوطة أي العدس مع الرز، أو العصيدة وهي كبّة مصنوعة من الذرة) وكنّا نسلق الجلبان أو الحمّص للضيافة وأمّا المشروب فكان يقتصر على دبس العنب والحلو من الزبيب والتين والتمر».

متى تزوجت، وكم كان مهر زوجتك؟

«أنا تأخرت كثيراً بالزواج حتى بلغت الثلاثين من العمر لأنني لم أجد ضالتي، حيث كنت أقول لوالدي أريد فتاةً إذا وضعت الخاتم في رأسها سقط من قدميها إلى الأرض، أي ممشوقة القوام وفاتنة لذلك تقدّمت لخطبة العديد من الفتيات ومن قرى مختلفة ولم أجد ضالتي، وحين وجدت الفتاة المناسبة أخذت مهر شقيقتي البالغ ستين ليرة ذهبية، لأدفعه مهراً لزوجتي التي وجدتها بعد بحث طويل وقد اشتريت مستلزمات العرس من (حطاطيّة وكبّوت وصرّافة)، وبعد زواجي بفترة قصيرة طردني والدي فعشت تحت الدرج في منزل عمي، وكان عملي بناء القبب، وقد أتقنت هذا العمل حتى صار ميزان البناء الذي أستخدمه مضربا للمثل، فكثيراً ما قيل كميزان "عبد الغني"».

وعن الوشم الموجود فوق كلّ إصبع من أصابعه قال: «لأنني كنت عازف مزمار وشمت أصابعي، لتراه الفتيات، وقد قالت لي إحداهن: «ريام ريامك يا ربيع، مدقدق عـا روس الصابيع.

بكرة لما بيصير الربيع، خضّ جراسك بـ يشيل الهم»، ومعنى البيت أنّ أجمل غزال في فصل الربيع هو نفسه ذلك الموشوم على أصابعه الذي ما أن يأتي فصل الربيع والخير حتى يمضي خلف أغنامه ذات الأجراس التي تبعد الهمّ عن القلوب».

وأضاف: «كان أهالي القرية يتعاونون فيما بينهم في الحصاد ونقل المحصول وفي بناء القبب وبيوت الطين، وهذا ما لا يحدث هذه الأيام حيث كانت قلوب الناس أكثر تآلفاً وأكثر رحمة للغير، فحين نسمع بشخص فقير كنّا نجمع ما أمكن لمساعدته».

وعن الشعر المحكي الذي أرخ من خلاله بعض الجوانب من حياة تلك الفترة روى لنا قصّة عاشها وكتبها شعراً بقوله:«سمعنا بأنّ الفرنسيين بحاجة لعدد كبير من العمال في "القامشلي" ولأنّ العمل كان نادراً في تلك الفترة قلت: «نار بقلبي تشوي شي، من سفرة القامشلي.

جاي عالجامع صلّي، وبالي فاضي ومتخلّي.

أنو "الناجي" بيقلي، تهيّر عالقامشلي.

قلي ياجاري رزقة الفاعل بنصّ الورقة.

بحضي هالشغلة لبقة، تهيّر لنمشي بكريّة».

وتابع عن سفره إلى "القامشلي" ليعلمنا أنّ المفاجأة كانت كبيرة وقاسية فعادوا من "القامشلي" سيراً على الأقدام، حتى كاد العطش يقتلهم، لولا أنهّم وجدوا برميل ماء حيث جرت العادة وقتها على وضع براميل ماء لإنقاذ المسافرين من العطش وحين أرادوا أن يشربوا كانت الماء تغلي من حرارة الصيف فقال يصف ذلك:

«تلقّى الطاسة وصار الغب، ما خلاّ نقطة تنكب، وقال الحمد لله يا رب، أنو بعيني شفت المي».

أخيراً سألناه إن كان يعرف كلّ أفراد أسرته فأكد أنه يعرفهم جميعا،ً وأنّه يعرف أحفاد أحفاده، من خلال أشكالهم، وحين ذكر جملته الأخيرة (أحفاد أحفاده) قال ولده "نور الدين العثمان" كثيراً ما يمازحونه بقولهم: «ياجدّي عبيصحلك جدّك، وندعو الله أن يحفظه وأن يديم صحته».