لعل محبة المرء لوطنه والمجتمع الذي ولد فيه أمر خارج عن إرادته، فمهما وجد من مغريات وحياة جميلة بعيداً عن ثرى وطنه سيبقى حنينه إلى الوطن أقوى، وسيظل دائماً يشعر بغصة تكاد تودي به كلما ذكرت كلمة وطن أمامه، من غير أن يشعر بذلك، الأمر الذي جعل الكثيرين من المغتربين يتطلعون بالعودة إلى بلادهم، مهما كانت النتيجة، وجعلهم يغتنمون الفرصة تلو الأخرى، حتى يودعوا الغربة إلى غير رجعة، والسيد "أحمد اسمر" واحد من هؤلاء المغتربين.

موقع eIdleb التقى السيد "أحمد أسمر" أحد أبناء مدينة "إدلب"، الذين أمضوا شطراً من حياتهم بالغربة ليقول: «أُولى مراحل حياتي بعيداً عن بلدي كانت في بداية الثمانينيات، حيث ذهبت إلى رومانيا بغرض الدراسة، ولكن الحالة التعليمية لم تناسبني في تلك الفترة فقررت أن انتقل إلى "ايطاليا" لأكمل دراستي هناك، فعدت إلى "إدلب"، ولكن الظروف لم تساعدني، وبقيت بإدلب ثلاث سنوات ورجعت إلى "رومانيا"، وعندما رجعت تغير الوضع تماماً في أوروبا الشرقية كلها، وتحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي».

أُولى مراحل حياتي بعيداً عن بلدي كانت في بداية الثمانينيات، حيث ذهبت إلى رومانيا بغرض الدراسة، ولكن الحالة التعليمية لم تناسبني في تلك الفترة فقررت أن انتقل إلى "ايطاليا" لأكمل دراستي هناك، فعدت إلى "إدلب"، ولكن الظروف لم تساعدني، وبقيت بإدلب ثلاث سنوات ورجعت إلى "رومانيا"، وعندما رجعت تغير الوضع تماماً في أوروبا الشرقية كلها، وتحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي

ويضيف: «عندما حدث ذلك في أوروبا الشرقية نشطت العملية التجارية، وتحسنت الأوضاع المعيشية، وصار بإمكان أي شخص أن يقيم هناك، وبأي صفة يختار، في حين كان في السابق لا يمكن العيش إلا بصفة طالب، فاستغليت الوضع واتجهت للعمل بالتجارة، وأصبحتُ آخذ البضائع من سورية والدول العربية، واعتمدت على المواد الغذائية والألبسة وغيرها من المواد التجارية، ولم استطع التوفيق بين العمل والدراسة، فاخترتُ العمل على الدراسة، وصار عندي مكتب تجاري، وعدد كبير من المستودعات واستقرت حياتي هناك بشكل جيد».

السيد احمد في المقهى

وعن الواقع الاجتماعي والمعانات التي واجهها في "أوروبا" يقول: «على الرغم من كثرة المغريات الموجودة هناك، ولا سيما المغريات المادية، فإن الفروق بين مجتمعاتنا العربية و"أوروبا" كبيرة، وما يوجد لدينا من علاقات اجتماعية وصلات بين البشر اختفت في أوروبا منذ أمد بعيد، فإن السائد هناك التعامل المادي، والطاغي على المجتمع ككل الحياة المادية البحتة، التي تؤمن بالعمل وتسعى إلى "فبركة" الواقع البشري والعلاقات الاجتماعية بالمنفعة وخدمة المصلحة المادية، وهذا ما عانيتُ منه كثيراً، فعلى الرغم من استقراري هناك لم أبن حياتي على أمل الاستمرار، بل كنتُ أسعى جاهداً لأقطع صلتي بأقرب فرصة ممكنة، لأعود إلى بلدي بين أهلي وناسي، لأن الحياة بعيداً عن ثرى الوطن أمراً لا يطاق، وخروج المرء من مجتمعه إلى مجتمع آخر أمر مكلف وثمنه باهظ، فما يزال لدينا العديد من العادات والتقاليد التي نفتخر بها، والتي تُشعرنا بوجودنا كبشر، ولكن من شروط المعيشة بأوروبا التخلي عنها كلها، وعن كل ما أُرضعناه من مبادئ وقيم وتقاليد».

ويضيف: «لم أتزوج حتى الآن، والأسباب لذلك كثيرة، في البداية عمدتُ إلى قطع أي صلة تربطني بـ"رومانيا"، إضافة إلى خشيتي من ضياع أطفالي في التيار المادي الانحلالي السائد هناك، فقد رأيت العديد من التجارب أمامي التي آلمتني كثيراً، فالكثير من أصدقائي العرب ارتبطوا بنساء "رومانيات"، فلم يكن لأطفالهم من رائحة بلدهم سوى الاسم، فأسماؤهم عربية، ولكنهم لا يعرفون عن "العرب" أي شيء، ولا حتى اللغة، التي نعتز بها ونفخر، فكثراً ما تراهم يقاسون الأمرين، بين شوقهم وحنينهم لأهلهم وأوطانهم، وبين حياتهم وواقعهم في بلد الغربة».

احمد اسمر

وعن حياته الحالية في "إدلب" بعد فترة غياب دامت أكثر من عشرين عاما يقول: «لم أتفاجأ أبداً بالواقع الحالي لمدينة "إدلب"، وعلى العكس تماماً ما رأيته لم أكن أتوقعه، فلم يحدث سوى تغير بسيط على المجتمع، والحياة المعيشية بهذه المدينة الهادئة، وربما السبب يعود إلى أنها مدينة منغلقة على نفسها، فليست على طريق هامة تصلها مع المحافظات الأخرى، ولا يمرُ بها طريق دولية، فلذلك لا تزال على ما هي عليه، وهذا ما يجعلني أحب هذه المدينة أكثر، وأغراني أكثر بالعودة إليها، فقررتُ ترميم المقهى الذي ورثته عن والدي، والذي يعتبر من أقدم مقاهي المدينة، والعمل على "دوكرته" وتجهيزه كأفضل المقاهي السياحية في القطر، وقررت الاستقرار في مدينتي، لأنني لا استطيع العيش بأي مدينة سورية أخرى، فإما "إدلب" وإما "أوروبا"».

ويختم السيد "أحمد" حديثه قائلاً: «يظن الكثير من الناس أن الذهاب إلى "أوروبا" أمر بسيط، وأن الحياة هناك شيء جميل، ولكن الأمر ليس كما يتصور الجميع، وأنا أنصح كل شخص وخاصةً الشباب، الذين دائماً يتطلعون إلى الذهاب إلى "أوروبا"، أنه وإن فرض عليهم ذلك ألا يبنوا حياتهم إلا على أساس العودة إلى بلدهم، لأن الإنسان يستطيع العيش من غير أموال، ويستطيع العيش من غير علم، ويستطيع العيش من غير زوجة، ويستطيع... ويستطيع، ولكن لن ولا يستطيع العيش أبداً من غير وطن».

المدرس عبد الحميد حبوش

ويقول السيد "عبد الحميد حبوش" أحد أصدقاء "أحمد" وأستاذه سابقاً: «أنا ضد فكرة الاغتراب وخصوصاً الخبرات العلمية والاقتصادية الشابة، لان ذلك يؤثر على واقعنا العلمي واقتصادنا المحلي، ولكن قد تجبر الظروف أحد الأشخاص على السفر وهذا ما حصل مع السيد "أحمد"، ولكنه استطاع أن يدرك أنه لا حياة بعيداً عن أرض الوطن الذي عليه نشأنا وتربينا وغرس فينا قيما وعادات نفخر بها ولا نجدها في أي من المجتمعات الأخرى، وأتمنى له ولكل المغتربين من أمثاله أن يكون حبهم لوطنهم هو شغلهم الشاغل وأن يفكروا بالعودة إلى ثرى أوطانهم مهما طال بهم الزمن ومهما أبعدتهم الظروف».