لأبناء "إدلب" علاقة قوية بالسخرية، وعدد كبير من أدبائهم يمارسونها في أدبهم، ويسرّهم أيضاً أن يستمعوا إلى أدب السخرية القديم عند العرب، ويتتلمذوا عليه كأدب الجاحظ. أمّا إذا اكتشف أحدهم أدباً ساخراً عند أديب معاصر، فذلك يعادل عثورَه على كنز.

شيء من هذا القبيل وجدتُه عند شاعر الحب والسياسة "نزار قباني".

لم أكن أعرف أن الضِّحْـك يحتاج لترخيص الحكومةْ ورســــومٍ وطوابعْ، العالم العربي يبلع حبةَ البث المباشر

لقد تسابق النقاد العـرب، وما زالوا يتسابقون إلى دراسـة شعره، لكنّهم – في حدود ما قرأتُ – غفلوا عما لديه من السخرية الفنية التي استخدمها في طائفة من قصائده، وهي سخرية خاصة تستحق التأمل في طبيعتها، وطرائق استعمالها في شعره.

ولعلّ السبب في هذه الغفلة راجع إلى انشغال النقد بالبارز الصارخ من جوانب أسلوبه كلغته الخصبة المائية، واشتقاق الصور من عالم المرأة، والاقتراب من المحسوس، والتعامل مع قاموس المفردات البسيطة الشائعة، وغير ذلك.

إنَّ للسخرية حضوراً واضحاً في عدد من قصائد "نزار" في المرأة والسياسة، ففي شِـعْر المرأة مثلاً يسخر من سيدة باعتْ قلبها بالنفط، وتشتد السخرية عندما يفاجئنا بقُرْعةٍ من نوع غريب، فأمام هذه السيدة صندوق ممتلئ بالرجال، وهي تمدّ أصابعها الذكية لتختار الأميرَ من بينهم، متجنّبة العاشق. يقول: وتزوجتِ أخيرا.....بئرَ نفطٍ......وتصالحتِ مع الحظ أخير كانت السحبة- يا سيدتي- رابحةً.....ومن الصندوق أخرجتِ أميرا.

ويتابع ملاحقاً الأميرَ بزخَّاتٍ من سخريته واصفاً مزاياه:

عربيَّ الوجه إلا أنه...ترك السيفَ يتيماً وأتى...يفتح الدنيا شفاهاً وخصورا.

أمّا في السياسة، فيطرح على الخليفة بعد حرب حزيران سؤالَ الجماهير التي ضاعت أجزاءُ غاليةٌ من أرضها، فيأتيه جواب غريب يفجِّر حالة من السخرية الموجعة: كلما جئتُ إلى باب الخليفةْ

سائلاً عن شَرَم الشيخ وعن حيفا

ورام الله أهداني خطابْ...كلما ناديته: يا أميرَ البر والبحر ويا عالي الجنابْ

سيفُ إسرائيل في رقْبتنا.. سيف إسرائيل في رقْبتنا

ركب السيارةَ المكشوفة السقف إلى دار الإذاعةْ

ورشاني بخطابْ!

صحيح أنَّ نزار قباني ليس مختصاً بفن السخرية كـ"ابن الرومي"، ولم يسر على خطا جماعة النقائض الذين أضحكوا، وأوجعوا بدبابيسهم الشعرية، ولم يكتب شعراً "حلمنتشياً"، لكنَّ سخريته غير المقصودة لذاتها كانت- كما أرى- عميقةَ الأثر في القصائد التي استعملها فيها، فأضافتْ إليها بعداً جديداً كالبعد الثالث في اللوحة، كما أنّها قرَّبتْ تلك القصائد إلى الناس.

تلك السخرية كان ينساق إليها "نزار قباني" بفعل مواقفه المتمردة، ومن المعروف أنه كان غيرَ راضٍ عن حياتنا العربية، يشهر سيفَ الغضب على أمور كثيرة، منها شكل العلاقة بين المرأة والرجل، خضوع النساء لظلم الرجال، عداء المرأة لجسدها وأنوثتها، نفاق الرجل للقيم المهترئة، الكسل والخَدَرُ في حياة الناس، المورثات في صندوق الأب كالأدعية والمدائح والطرابيش، هزيمة حزيران، هزائم السياسية العربية التي تنقلب بقدرة قادر إلى انتصارات مدوية، لكنَّ سخرياته لا ترسم- غالباً- على شـفاهنا أكثرَ من الابتسامة، بينما تكوي أعماقَنا بأسياخ حامية على طريقة الطب العربي:

أدخلوني لفلسطين على أنغام ما يطلبه المستمعونْ

أدخلوني في دهاليز الجنونْ... فاعذروني- أيها السادة- إن كنتُ ضحكتْ

كان في ودي أن أبكي...ولكني ضحكتْ.

ومن الملاحظ أنَّ سخريات الشاعر بلغت أقصاها بعد نكسة حزيران عام 1967، كما يشير إلى ذلك "ترمومتره" الشعري، فقد آلمه جداً أن يرى العربَ بعد الهزيمة القاسية أمام العدو يعودون إلى مقاهيهم ونراجيلهم ولا مبالاتهم، وكأنَّ شيئاً لم يحدث:

حربُ حزيران انتهت...فكل حرب بعدها، ونحن طيبونْ… جمرُ النراجيل على أحسن ما يكونْ...وطاولاتُ الزهر مازالت على أحسن ما يكونْ

حربُ حزيران انتهت...وضاع كل شيء...لكننا باقون في محطّة الإذاعةْ

فاطمةٌ تهدي إلى والدها سلامها...نفيسةٌ قد وضعتْ مولودها

فطمئنونا عنكُمُ...عنواننا المخيمُ التسعون.

والمدهش حقاً أنّ القباني- رغم عدم اختصاصه بالسخرية- إلا أننا نستطيع أن نلمح له طريقة خاصة فيها قد يحسده عليها المختصون، فهي في مجملها سخريةُ موقف يبقى الضحك الذي تثيره وراء الشفاه في الأغلب.. أي أنه ضحكٌ نفسيٌ، تنتج عنه زلزلة داخلية، والشاعر بلا تكلف يبدع في توليف الجمل الساخرة التي تفتح الطريق أمام هدفه مستنداً إلى أمرين.. الأول: بساطة اللفظة، والثاني: استثمار مناطق الوجع في الوجدان العربي. من ذلك: «لم أكن أعرف أن الضِّحْـك يحتاج لترخيص الحكومةْ ورســــومٍ وطوابعْ، العالم العربي يبلع حبةَ البث المباشر»: «يا عيني عالصبر يا عيني عليه».

وقد يعتمد على التضاد لخلق سياق ساخر، فها هو "الدرويش" غَفِل عن الزمن الذي يطالب الأحياء بالفعل والمبادرة، وراح منذ عشرين سنة يردد الأدعية، ووراءه يردد بطلُ القصيدة الذي ملَّ أخيراً، فانفجر غضبه، وللتضاد هنا مساران: الأول بين "الدرويش" والزمن، والثاني بين "الدرويش" ومَن وراءه:

يقول: اللهم امحقْ دولة اليهودْ

أقول: اللهم امحق دولة اليهودْ

يقول: اللهم شتت شملهم

أقول: اللهم شتت شملهم.

وقد يتفنن في إخراج صور طازجة، فيجعل للصحافة أسناناً، وللإذاعات بطوناً تلتهم المواطنين الطيبين، كما في هذا المقطع من قصيدة الخطاب حيث تعرَّض للاستجواب أحد البسطاء بسبب الضحك من كلام غير مقنع، ووصلتْ صوره إلى الصحف:

نشروا في صحف اليوم تصاويري على أول صفحةْ

واعترافاتي على أول صفحةْ

فضحكتْ

قدموني للإذاعات طعاماً، ولأسنان الصحافةْ

جعلوني دون أن أدري خرافةْ

ربطوني بالسفارات وأحلاف الأجانبْ.

لكنَّ الكآبة فارقت الشاعر بعد حرب تشرين، فغنَّى أعذبَ أشعاره، وخصوصاً للشام:

هاهي الشام بعد فُرقة دهرٍ أنهرٌ سبعةٌ وحُـورٌ عينُ

بقيت ملاحظات سريعة من المفيد أن أذكرها:

1- إنَّ سـخرية نزار لا تمتدّ إلا على جزء من جسم القصيدة التي يستعملها فيها، فهي أداة ضمن أدوات كثيرة في يده، لكنها تصبح جزءاً عضوياً في نصه متداخلاً فيه كتداخل العصب في اللحم.

2- يلجأ الشاعر إلى السخرية في شعر السياسة أكثر من شعر المرأة.

3- في نثر نزار نعثر أيضاً على سخرية خاصة في عدد من نصوصه.

4- ما ذكرتُه في السطور السابقة ليس إلا وجهة نظر قد يوافقني عليها المهتمون بأدب القباني، وقد يرى بعضهم أنني أشدَّ لحافَ السخرية نحوه. أياً كان الأمر، ففي ظني أنَّ المسألة تستحق دراسة خاصة، وما مقالتي هذه إلا دعوة إلى ذلك.