سماه وزير الثقافة الدكتور "رياض نعسان أغا" بـ"جاحظ القرن العشرين"، لأنه يمتلك أكثر من وجه، وأطلق عليه النقاد "تشيخوف العرب"، لكونه تأثر في بداية مشواره في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، بالأديب الروسي الكبير "تشيخوف" وكان يجاهر في أحاديثه بتتلمذه على أدبه، عبقرية متعددة المواهب، فهو الروائي وكاتب القصة.. المترجم والناقد الأدبي والصحفي وكاتب التمثيلية الإذاعية، إنه الأديب الراحل "حسيب كيّالي" مؤسس القصة الساخرة في "سورية"، وشيخ أدب النكتة في الوطن العربي.

والذي أجمع النقاد على أنه غيّر مسار القصة ليس فقط في "سورية" بل على مستوى الوطن العربي على صعيدين: فمن حيث الشكل كان اعتماده أسلوب الحكاية البسيطة بعيداً عن الحذلقات الفنية، ومن حيث المضمون اختياره المهمشين الذين يغيبون عادة عن ساحات القصة والأدب، كان يردد دائماً أن أفضل القصص التي يكتبها الأديب تلك التي يؤلفها الناس قبل أن يكتبها، هو الساخر بطبعه كما يقول عنه الروائي "حنا مينه"، والإنسان الحقيقي تماماً حتى النخاع إذ لا مكان للحظة زيف عنده على حد وصف الكاتب "نصر الدين البحرة"، كان يطبق الواقعية بلا ضفاف قبل أن يؤلف "جارودي" فيها كتاباً كما يقول الشاعر "شوقي بغدادي"، أجاد الفرنسية والروسية، فأغنى المكتبة العربية بعدة كتب مترجمة عن الأدب الفرنسي والروسي، مثل "حكايات القط الجاثم"، و"رؤوس الآخرين" عن الفرنسية، وأعمال "بوشكين" و"تولستوي" و"ليرمنتوف" عن الروسية، فالمترجم عند "كيّالي" لا تكفيه معرفة اللغتين المنقول منها والمنقول إليها، بل عليه إجادتهما معاً لغوياً وأدبياً، رغم أنه عاش ومات بعيداً عن "إدلب"، إلا أنه حملها معه في قلبه في حله وترحاله، فمن "باريس" إلى "موسكو" و"بوخارست" وأخيراً "دبي"، وكان يعبّر عن حبه لها بقوله: «مدينتي "إدلب" ليست إلا الواقع الذي عشته بأحداثه الكبرى وتفاصيله، ثم قمت بتصويره وإنشاده، إنشاد المحب، ولا تزال حتى بعد هجري إياها هي الأكثر حضوراً وتألقاً».

مدينتي "إدلب" ليست إلا الواقع الذي عشته بأحداثه الكبرى وتفاصيله، ثم قمت بتصويره وإنشاده، إنشاد المحب، ولا تزال حتى بعد هجري إياها هي الأكثر حضوراً وتألقاً

ومن أجل كل ذلك كان لموقع eIdleb هذه الوقفة لكشف بعضاً من جوانب إبداع "كيالي"، فالأديب "نجيب كيّالي" تحدّث عن شخصية الراحل "حسيب كيّالي" كما ترسمها الرسائل المتبادلة بينهما بالقول: «امتد بيني وبين "حسيب" جسر من الرسائل المتواصلة خلال ثلاث سنوات عندما كان في "الإمارات"، وهي الأعوام التي سبقتْ وفاته في عام 1993، زادتني المراسلة حباً به، لكن شخصيته التي تكشف عنها الرسائل لا تختلف عن شخصيته التي نعرفها في أدبه، فهو ساخر، جريء، حاد، عاشق لـ"إدلب"، يحمل روائحها في روحه، وفي كل كلمة من كلماته، كانت رسائله إليّ شخصيةً ثقافيةً إنسانية، بل فيها شيء من كل شيء، عرفتُ منها الكثير من آرائه، فكان يعتبر شهادة القارئ هي الأهم عنده، يقول: إذا ضحك القارئ لكتاباتي الساخرة، فهذا يعني أنها ذات قيمة، أنا أكتب للناس، ولولاهم لما كتبتُ حرفاً واحداً، ولعلك تلاحظ حضورهم الطاغي في قصصي من مختلف الشرائح: الحلاق، بائع المكانس، كشاش الحمام، المعلم، الطبيب، وكان يقول لي عن سبب جرأته المعروفة: الصمت على الفضائح يحتاج إلى قدر من الجبن، وأنا بحمد الله لستُ جباناً، ويحتاج أيضاً إلى بلادة مطلقة، أو كمية مُبحبَحة منها، وأنا- رغم شيبتي وشيخوختي- لم أستطع أن أكون بليداً، مرَّ عليَّ الزمان فلم يُقلِّم أظافري، ولم يقدر أن يجعل مني خنثى. هذا أولاً، أما ثانياً ففي يقيني أن الأديب رقيب على نفسه وعلى الحياة كلها، ومن الخيانة لدوره ألا يشير إلى العورات، وما أكثرها بين الناس وأهل المسؤولية وحتى بين الأدباء أنفسهم، قلت له في إحدى الرسائل: ما رأيك فيمن يصفونك بأنك حكواتي لا قاص؟، فأجابني: حكواتي.. يا سلام! هذه مرتبة فنية لا تقل عندي عن شهادة دكتوراه فخرية، أعجبتني هذه الكلمة من النقاد.. حتى لو أرادوا بها ذماً. الحكواتي كان يجمع البلدَ حول حكاياته، أكبر طربوش، وأثخن شارب كانا يسعيان إليه في المقهى، ويصغيان بأدب ولهفة وخضوع، وكأنَّ فم ذلك الرجل ينبوع سحر لا ينضب، لقد كان قادراً أن يثير كلَّ العواطف في نفوس مستمعيه: الحب، الكره، الرحمة، الغضب، وكأنه بذلك يجدد القلوب، فتبقى طريةً بين يديه».

الأديب نجيب كيالي

لقد أبدع الراحل "حسيب كيّالي" في فن النكتة وعن ذلك يحدّثنا الأديب "خطيب بدلة": «كان أستاذنا "حسيب كيّالي" يعتبر نفسه مجرد كاتب يبحث عن النكتة، وكان يمقت النكتة المحفوظة التي يتبادلها الناس في مجالسهم، فقد كتب إلي في إحدى رسائله العابرة للقارات كما كان يسميها، وكأنها الصواريخ- يراهنني على أن نكتة ما تسمعها صباح هذا اليوم في "إدلب"، تسمعها مساءً في "الدار البيضاء" والعكس صحيح، ولهذا فإن النكتة المحفوظة برأيه ليس لها أية قيمة أدبية أو إبداعية، كان الأستاذ "حسيب" يتابع تفاصيل الحياة اليومية بحثاً عن النكتة، حيث لم يكن يعتمدها مادة لما يكتب من قصص ومقالات، بل إنه كان يساهم في صناعة الموقف الضاحك الذي يتحول إلى نادرة أرقى من النكتة المحفوظة بكثير».

ولكن هل من تكريم قدمته مديرية الثقافة في "إدلب" للراحل "كيّالي"؟، يجيب مدير الثقافة "هيثم شحادة": «كان لمديرية الثقافة مبادرات سابقة في مجال تكريم الراحل "حسيب كيالي"، وسوف يكون لها مبادرات لاحقة في ذلك، فقد تم وضع تمثال للأديب الكبير عند مدخل مديرية الثقافة، كما تمت تسمية صالة المسرح الكبير في المديرية باسمه، كذلك نحن أقمنا ندوة تكريمية للراحل منذ ثلاث سنوات رعاها السيد وزير الثقافة، تناولت أدبه وإبداعه، وحالياً نعد لإقامة مهرجان "حسيب كيالي" للقصة، إلى جانب إطلاق مسابقة أدبية للقصة الساخرة باسم "حسيب كيالي"».

الأديب خطيب بدلة

جدير بالذكر بأنّ الأديب "حسيب كيالي" من مواليد مدينة "إدلب" عام 1921م، كان لوالده الشيخ "زهدي الكيالي" دور كبير في صقل شخصية ولده "حسيب"، حيث كان يسمح له بحضور مجالس الكبار والمشاركة فيها إصغاءً وحديثاً، على الرغمِ من أنَّ مشاركة صغار السن في ذلك الوقت في مجالس الكبار لم تكن شيئاً وارداً، ومن هنا نشأ "حسيب" محبّاً للمعرفة، جريئاً في النقد، تخرج في جامعة "دمشق" بعد أن حصل على إجازة الحقوق، وفي عام 1953 أوفد إلى "باريس" لتحضير الدكتوراه في الحقوق لكنه انصرف إلى دراسة المسرح ومشاهدته في عاصمة النور، كان يعمل مراقباً لغوياً في تلفزيون "دبي"، توفي هناك في عام 1993 بعد مرض عضال، حيث دفن في مقبرة القوز في "دبي"، من مؤلفاته القصصية: "مع الناس" صدرت عام 1952، "أخبار من البلد" 1954، "رحلة جدارية" 1971، "من حكايات ابن العم" 1992، ومن رواياته: "مكاتيب الغرام" 1956، "أجراس البنفسج الصغيرة" 1970، "نعيمة زعفران" 1993، ومسرحية شعرية بعنوان "الناسك والحصاد" عام 1969، ومن المؤلفات الأخرى: "تلك الأيام" و"المارد".

مدير الثقافة هيثم شحادة