تشكل الهجرات الداخلية خطراً حقيقياً على الدول لما لها من انعكاسات سلبية من ناحية التغير الديمغرافي لسكان المدينة والريف، إضافةً إلى تأثيرات اقتصادية منها قلة اليد العاملة وارتفاع أجرتها في بلد الهجرة وانخفاضها في البلد المستقبل للهجرات نتيجة لمنافسة اليد العاملة الوافدة لليد العاملة الأصلية وتحكم أرباب العمل بمصير الوافدين مستغلين أوضاعهم.

ومن التأثيرات السلبية الأخرى تفتت الأسرة التي تعتبر الركيزة الأولى للمجتمع وضعف العلاقات الاجتماعية واضطرار الأهل إلى دفع أبنائهم إلى ترك المدارس خاصةً في الأسر الكبيرة من أجل العمل والمساعدة في تغطية نفقات الحياة، إضافةً إلى صعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة ولما لذلك من تأثيرات نفسية على أبناء المجتمع.

لا يبدو أن هناك في الأفق القريب أمل في العودة مادام بقيت الظروف هكذا، لكن إذا تحسنت الظروف سنعود وهل هناك أجمل من العودة إلى الأهل والديار

وتجتمع عدة عوامل تسهم في هجرة المواطنين ضمن الدول منها على سبيل الذكر عدم توافر البنية التحتية من خدمات ضرورية لاستقرار الإنسان، إضافةً إلى عدم تشجيع الزراعة والجفاف الذي تتعرض له المواسم الزراعية، وقلة الاستثمارات الصناعية في هذه المناطق مما يؤدي إلى هجرة أهالي هذه المناطق إلى المدن والعواصم الكبرى داخل الدولة كما حل بأهلنا في "الحسكة" بحثاً عن حياة أفضل لهم ولأولادهم بعدما أطبق الجفاف عليهم بخناقه.

المواطن"محمود علي عثمان" وعائلته

موقع eHoms التقى بعضاً من الأسر التي هاجرت من محافظة "الحسكة" واستقرت في الجزء الغربي من محافظة "حمص" للعمل بالزراعة وغيرها من الأعمال الأخرى.

السيدة "إلهام محمد وسمي" من محافظة "الحسكة" متزوجة ولديها ثلاث أبناء تعمل هي وزوجها "أبو خليل" في مشتل لزراعة الورود تقول: «نحن من قرية تبعد حوالي /5كم/ عن "الحسكة" ولم نكن نملك دنم أرض في قريتنا، وكان زوجي يعمل بالأجرة بدخل محدود لايتجاوز يومياً من الصباح حتى المساء من/100_200ل.س/، كيف بهكذا دخل محدود نستطيع أن نؤمن معيشتنا اليومية وتعليم أبنائنا وأجرة المنزل الذي كنا نستأجره في "الحسكة"».

المواطن"عبد الفتاح عطية الكسار"

مضيفةً: «إن الجفاف الذي أصاب مناطقنا منذ ثلاث سنوات خاصةً أن القسم الأكبر من المزارعين يعتمدون على الزراعة البعلية وانخفاض أجرة العمالة في "الحسكة" وتعرضها للاستغلال من قبل أرباب العمل وعدم وجود معامل ومصانع واستثمارات هي ما دفعت الناس إلى ترك أراضيهم ومنازلهم والرحيل طلباً للقمة العيش، ففي قريتي التي يبلغ تعدادها حوالي /5 آلاف/ نسمة هاجر حوالي/400/عائلة، ولم يبق إلا الذين يملكون الآبار البحرية لسقاية القمح والقطن».

ويعقب زوجها "أبو خليل" بالقول: «حتى أولئك الذين يملكون الآبار البحرية بدأوا بالهجرة لأن الأرض لم تعد تعطي تكلفتها، فتكلفة زراعة /150دنم/ من الأرض حالياً تحتاج إلى /100ألف/ ثمن بذار و/70ألف/ فلاحة، والسقاية الواحدة تكلف /5 آلاف/ثمناً للمازوت إذا علمنا أن السقاية تكون كل /8أيام/ وهي بحاجة كذلك إلى أسمدة فكم يا ترى سيكون الربح الصافي للمزارع وهل سيغطي تكاليفه المرتفعة؟؟».

الخالة"تركية" والدة عبد الفتاح عطية الكسار

مضيفاً: «هاجرت وزوجتي وأولادي الثلاثة منذ ثلاث سنوات وأنا أعمل في مشتل الورود ليل نهار مقابل/12ألف/ شهرياً، ففي السادسة صباحاً أبدأ العمل في المشتل من سقاية وتوضيب الزهور ووضعها في الكراتين ولا أنتهي من هذا العمل إلا في (11) ليلاً وعليّ الاستيقاظ في الثالثة صباحاً من أجل إرسال كراتين الزهور بالسيارة إلى "دمشق".

تقول "أم خليل": «تكاليف الحياة هنا مرتفعة ومرتب/12ألف/ شهرياً غير كافية لتغطية نفقاتنا اليومية خاصةً أن أولادنا الثلاثة يقرؤون في مدارس "برشين"، لكن يبقى الوضع هنا أفضل بكثير من أن نستدين من الدكاكين في "الحسكة"، والناس هنا يحبوننا ونتبادل الزيارات معهم في المناسبات والأعياد، وأولادنا يتعلمون في المدارس دون مضايقة من أحد ولديهم العديد من الأصدقاء هنا»، وتضيف: «إن ابني البالغ من العمر /13عام/ يبكي دائماً وهو يقول لي يا أمي أنا مشتاق لأصدقائي وأخوالي في "الحسكة"، لكن ماذا يطلع بأيدينا فحتى أجرة الطريق إلى هناك والاتصال بهم على الموبايل يشكل لنا عبء حقيقي غير قادرين على تحمله ونحن لانراهم إلا مرَة واحدة في العام في عيد الأضحى».

ويذكر "أبو خليل" حادثة تعرّض لها أثناء عمله كـ(عتال) في مركز إكثار البذور في "الحسكة" فيقول: «كنت أقوم بترتيب (شوالات القمح) عندما سقط على قدمي عدد من هذه الشوالات حيث يبلغ وزن كل كيس /150كغ/، مما أدى إلى كسر في كعب قدمي أجلسني في المنزل أسبوع ودون أن أحصل على أي تعويض، لكن أولادي بحاجة للطعام وإذا لم أعمل لن يأكلوا ولن أستطيع أن أدفع أجرة المنزل، لذلك تركت المنزل وعدت إلى العمل قبل أن يجبر الكسر مما أدى إلى حدوث تشوه في كعب قدمي».

كما التقينا الطفلة "زينب" ابنة "أم خليل" البالغة من العمر/15عام/ وهي مصابة بمشكلة في السمع وعن ذلك حدثتنا أمها:«منذ /14عام/ وابنتي لاتسمع وطوال هذه الفترة لم نستطع أن نعالجها لعجزنا عن ذلك، وعندما أتينا إلى هنا قدم لنا صاحب المشتل المساعدة وأخذنا إلى خوري القرية وقدم لنا أحد أطباء القرية سماعة أذن وهي الآن تسمع بشكل جيد، لكنها تعاني من مشكلة الاندماج مع رفاقها في المدرسة فهي وحيدة ولا تختلط معهم وكأنها بوحدتها تشعر بالراحة وتقول لي أنا أشعر بالخجل من وضع سماعة الأذن كونها كبيرة وأريد سماعة صغيرة تدخل في الأذن، وفي كثير من الأحيان كانت تعود إلى البيت باكية وهي تقول لا أريد الذهاب إلى المدرسة أريد العودة إلى "الحسكة" إلى عند رفاقي وأقاربي».

وأخذتنا "أم خليل" إلى عند عائلة مهاجرة تعمل في معمل لتصنيع العبوات البلاستيكية، حيث التقينا عائلة السيد "محمود علي عثمان" الذي يعمل وأولاده الخمسة وزوجته في هذا المعمل /24ساعة / يومياً دون توقف وذلك مقابل /30ألف ل.س/ شهرياً، أي أن كل واحد منهم يعمل بأجرة يومية تبلغ حوالي /150ل.س/ في ظروف عمل سيئة واستغلال لأوضاعهم وحاجتهم للعمل ويقول "عثمان": «أتيت إلى هنا منذ حوالي /16يوم/ لضيق الحياة المعيشية في "الحسكة"، فمحل القصابة الذي كنت أستأجره وأعمل فيه لم يعد يأتي بهمه، فالجفاف الذي أصاب مناطقنا منذ /3/سنوات وعدم وجود معامل ومصانع تستوعب العمالة الكبيرة دفع الناس إلى الهجرة بعدما أغلقت في وجههم كل السبل».

ويتابع: «أعمل وزوجتي وأولادي في هذا المعمل ليل نهار ودون توقف في (ورديات) ونحن نسكن داخل هذا المعمل في غرفة وعلينا أن نتحمل ضجيج الآلات التي تعمل/24ساعة/متواصلة، ولدي ابنتين مصابتين بالصمم، أما أولادي الثلاثة الآخرين فهم طلاب في الصفين الثامن والتاسع ويقول لاأعرف إذا ماكنت سأكمل تعليمهم أم لا ؟ لكن إذا استمرت ظروف العمل هكذا فسأكون مجبراً على عدم إرسالهم للمدرسة».

وعندما سألناه هل تفكر في العودة إلى "الحسكة" قال: «لا يبدو أن هناك في الأفق القريب أمل في العودة مادام بقيت الظروف هكذا، لكن إذا تحسنت الظروف سنعود وهل هناك أجمل من العودة إلى الأهل والديار».

أما السيد "عبد الفتاح عطية الكسار" "أبوباسل" فقد أجبرته الظروف على جعل أبنائه يتركون المدرسة من أجل مساعدته في تأمين معيشتهم اليومية. فيقول: «هاجرت وزوجي وأولادي الثلاثة منذ سنة ونصف تقريباً، وكنت أملك في "الحسكة" حوالي /60 دونم/ من الأراضي التي كنت أزرعها بالقمح ولكن بسبب الجفاف الذي أصابنا لم تنبت حبة قمح فوق الأرض حتى لضمان الغنم، كما أن أجرة العامل منخفضة وفرص العمل قليلة مما جعل أصحاب المنشآت يحكمون رؤوس الناس بلقمة الخبز، هذا عدا عن قلة عدد منشآت الدولة وانخفاض معدل الإستثمار هناك لدرجة انعدامه وهذا مما جعل الناس تترك أراضيها ومنازلها وتهاجر إلى "دمشق" و"حلب" و"حمص"».

ويعمل أولاد "عطية الكسار" في الأعمال الزراعية الحرة ويبلغ دخلهم الشهري حوالي/12ألف/

ويقول: «أول ما أتينا إلى هنا كنا نسكن في خيمة دون كهرباء وقضينا هكذا فصل الشتاء بأمطاره وثلوجه في هذه المنطقة المرتفعة من "برشين"، حتى سكنا في بيت تابع لمعمل البلاستيك القريب منا ونحن ندفع شهرياً /1500ل.س/ كهرباء لأن الكهرباء لدينا صناعية كما قمنا بتركيب غطاس ماء على حسابنا، لكن الحال مستورة وماذا يطلع بإيدينا أكثر من ذلك، ولا أعرف على من أضع الحق في حرماني لأولادي من التعليم ؟؟».

وللمواطن "عطية الكسار" عدد من الأخوة الذين تركوا القرية وهاجروا للعمل في "دمشق"، وكان آخر من هاجر من أهله أمه العجوز "تركية" التي تركت هي الأخرى قريتها وأتت لتعيش معه.

الخالة "تركية" قالت: «هاجر أولادي الأربعة إلى "دمشق" ولم يبق لي أحدٌ هناك فالناس تهاجر ولم يبق في القرية سوى كبار السن والعجزة، لذلك تركت قريتي ولحقت بابني "محمد"، ما كنت لأُصدق أن بعد هذا العمر الطويل سيترك أولادي أرضهم ويفترقوا عن بعضهم وعني أو أن أبتعد أنا عن قريتي وبيتي لكن الحياة غدت مستحيلة هناك، إنها مأساة حقيقية نعيشها الآن، مصيبة لم نر مثلها من قبل».

ويبقى الشوق والحنين هو عنوان المهاجر الوحيد في أي بقعةٍ من الأرض يطرقها وهو ماعبرت لنا عنه "أم باسل" بلهجتها البدوية الجميلة حيث قالت: «شلون مانشتاق هو في حد يحب يبعد عن هلو وقرابته ..إلي يمرض مانعرف بيه واللي يموت مانقدر نجيه بيومه... والله هادا ابني قاعد من البارحة يبكي ويقول لي أريد هلي أريد روح "الحسكة"».