بدأت ميولُه تتجه صوب الأدب بصنوفه المختلفة في مراحل دراسته الأولى، أحبَّ المطالعة كثيراً فعززت من خياله الشعري، لتكون قصائده انعكاساً لواقع الإنسان وأحلامه، مؤكدَّةً على دور الحبّ والمرأة في حياته كملجئ وحيدٍ من همومها وأحزانها.

مدوّنةُ وطن "eSyria" تواصلت مع الشاعر "عبد النبي التلاوي" لتتعرف منه على تجربته الشعرية التي بدأها منذ أربعين عاماً والبداية كانت عن مرحلة النشأة والدراسة فقال: «في حي "جورة الشياح" الشعبي كانت ولادتي ضمن عائلةٍ محبَّةٍ للعلم والثقافة، والدي الراحل كان يحضُّنا على ذلك بكلِّ تصميمٍ عبر توفيرٍ الأجواء المناسبة، رغبةً منه في تعويض ما فاته جرَّاء الظروف التي منعته من إكمال دراسته التي كان متفوقاً فيها، كتاب القراءة والمحفوظات من الذكريات الجميلة التي لن تفارق أبداً ذاكرتي، فقد كنت أحفظ كلَّ ما فيه من نصوصٍ شعريةٍ وأناشيد وقصص خلال الأسبوع الأول من استلامي له في المدرسة، شغفي بالمطالعة تعزَّز رويداً رويداً من خلال ارتيادي المستمر لقاعتها الخاصة بالأطفال الموجودة في المركز الثقافي، لتكون مرحلة الدراسة الإعدادية هي المؤشر لجموح ميولي نحو اللغة العربية وبحور آدابها الواسعة».

في حي "جورة الشياح" الشعبي كانت ولادتي ضمن عائلةٍ محبَّةٍ للعلم والثقافة، والدي الراحل كان يحضُّنا على ذلك بكلِّ تصميمٍ عبر توفيرٍ الأجواء المناسبة، رغبةً منه في تعويض ما فاته جرَّاء الظروف التي منعته من إكمال دراسته التي كان متفوقاً فيها، كتاب القراءة والمحفوظات من الذكريات الجميلة التي لن تفارق أبداً ذاكرتي، فقد كنت أحفظ كلَّ ما فيه من نصوصٍ شعريةٍ وأناشيد وقصص خلال الأسبوع الأول من استلامي له في المدرسة، شغفي بالمطالعة تعزَّز رويداً رويداً من خلال ارتيادي المستمر لقاعتها الخاصة بالأطفال الموجودة في المركز الثقافي، لتكون مرحلة الدراسة الإعدادية هي المؤشر لجموح ميولي نحو اللغة العربية وبحور آدابها الواسعة

عن بداية تشكُّل موهبته الشعرية وكيفية تعزيزها تابع قائلاً: «خلال تلك المرحلة بدت ملامح ميولي الأدبية بالظهور من خلال الفروض المدرسية الخاصة بمادة اللغة العربية وخاصةً التعبير الأدبي منها، وهنا أستذكر المدرِّس الراحل صاحب الشخصية الرزينة "أحمد نورس سواح" الذي كان مهاباً من قبل جميع الطلبة حينها، حيث أبدى إعجاباً بالغاً فيما أكتبه من مواضيع، لدرجةٍ وصلت به في إحدى المرات لمناداتي (تفضل سيد عبد النبي اقرأ موضوعك) مع ثناءٍ جعلني فخوراً أمام زملائي لدرجةٍ جعلتني فيما بعد أهيم بدروس اللغة معه.

المهندس والشاعر محمود نقشو

مسرحية "طيف المتنبي" ذاك المؤلف الذي وقع بين يديَّ مصادفةً أثناء دراستي في الصف الثامن الإعدادي، كان دوره كبيراً في اهتمامي لاحقاً بالشعر العمودي، من خلال تأثري بما حواه من قصائد حفظتها عن ظهر قلبٍ خلال فترةٍ وجيزة، ومعها بدأت بنظم الشعر تقليداً دون درايةٍ بعلم العروض وبحوره المعقَّدة، وتوسَّعت في مطالعتي لأغوص في روايات "نجيب محفوظ" و"يوسف السباعي" ومعهم "محمد عبد الحليم عبدالله" و"إحسان عبد القدُّوس"، هذا كلُه شكَّل بالنسبة لي مخزوناً جيداً من الصور والأدوات اللازمة في صياغة القصيدة، لكن التحوُّل الأكبر كان مع رواية "الشراع والعاصفة" للروائي "حنا مينه" والتي كانت باكورة متابعتي اللاحقة لعموم نتاجاته الأدبية، ومنه كان توجُّهي لمطالعة الرواية السورية والتعرُّف عن كثب على أساليب أدبائها المعروفين ومنهم "عبد السلام العجيلي"، "وليد إخلاصي" وآخرين، مع متابعة أشعار "البحتري"، "أبي العلاء المعري"، "بدوي الجبل" و"بشارة الخوري"، كلُّ ذلك عزز من ذائقتي الشعرية، وأصبحت أكثر درايةً وشغفاً بالشعر العمودي الكلاسيكي».

عن شعر التفعيلة ومدى تأثيره في تجربته الأولى، أضاف بقوله: «بدأت بالتعرُّف على هذا النوع من الشعر مع بداية المرحلة الثانوية، حيث كان اطلاعي الأول على أسلوبه من خلال ديوان "هوامش على دفتر النكسة" لرائده الكبير "نزار قباني"، إعجابي به دفعني متحمساً لقراءة كبار ناظميه وخاصةً "بدر شاكر السياب" و"محمود درويش"، تأثَّرت بهم كثيراً لدرجةٍ غيَّرت من أسلوب قصائدي اللاحقة، التي كنت مدارياً لها من الظهور باستثناء بعض المقربين خوفاً من رأيٍ سلبي عن تجربتي، لتأتي الصدفة في عام 1980 وتنقلني إلى عالمٍ آخر لم يكن في قائمة حساباتي الشخصية، حيث تقدَّمت لمسابقةٍ خاصةٍ بالشعراء الشباب كانت برعايةٍ من فرع اتحاد الكتَّاب العرب في مدينة "حمص" حينها، بعد إلحاحٍ شديدٍ من صديقي "توفيق دباس" الذي كان مطَّلعاً عن كثبٍ على نتاجي الخاص بي، أستذكر هنا ذاك الموقف حينما سلَّمت مظروفي الخاص على عجالةٍ عند باب الفرع دون كتابة عنواني، ليطلب من الموظف وضعه وكأنَّه كان عالماً بحدوث مفاجأةٍ ما، وبالفعل حدث ذلك، حيث فازت قصيدتي بالمركز الثاني في المسابقة المذكورة، وشكَّلت بوابةً لدخولي إلى الوسط الأدبي في المدينة، والتعرُّف على شخصياتٍ أدبيةٍ لها شأنها العالي في أيامنا هذه، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور "غسان لافي طعمة"، المهندس "محمود نقشو"، الدكتور "حسان الجودي" وآخرون غيرهم، هذا الدخول شجَّعني أكثر على الكتابة والاستفادة لاحقاً من تجارب زملائي، مشاركتي الأولى كشاعرٍ معترفٍ به أمام جمهور الشعر كانت من خلال مهرجان "رابطة الخريجين الجامعيين" الشعري، الذي ابتدأ محليَّاً ليتوسع فيما بعد ويصبح منبراً لمشاركات شعراء من أقطار عربيةٍ مختلفة، لأنتقل في مرحلةٍ لاحقةٍ إلى خارج حدود جمهور مدينتي».

مجموعتاه الشعريتان الأولى والثانية

المرحلة الجديدة وما شهدته من تطورات في مسيرته الشعرية عنها يقول: «تنامت تجربتي الشعرية رويداً رويداً من خلال المهرجانات التي وجدت فيها كشاعرٍ جديد الظهور، ليأتي العام 1984 حاملاً ثمرة نجاحٍ جديدة بعد فوزي بالجائزة الأولى في مهرجان "طرطوس" الأدبي للشعراء الشباب في "سورية"، وقد نلتها مناصفةً مع الصديق الشاعر "محمد وليد المصري"، هنا توسعت دائرة معارفي بشخصياتٍ لها وزنها الأدبي وشهرتها الشعرية الواسعة، فلم يكن في مخيلتي ذات يوم بأن أوجد في حضرة كبارٍ مثل الراحل "ممدوح عدوان"، الأديبة "كوليت خوري" و"فايز خضور" الذي تبنى قصائدي وعمل على نشرها في مجلة "الأسبوع الأدبي" التي يصدرها اتحاد الكتَّاب العرب، ولن أنسى هنا فضل الأديب الناقد "حنا عبود" الذي نلت منه التشجيع الأكبر والنصح للمضي في الوجهة الصحيحة والفضلى لأسلوبي الشعري الخاص، ومعه بالذات تعرَّفت على مدارس الشعر الغربي وتجارب شعرائه المعروفين.

بعد خمس سنواتٍ كنت على موعدٍ جديدٍ مع النجاح في مسيرتي، من خلال مشاركتي في مسابقة "يوسف الخال" لاختيار أفضل مجموعة شعرية غير منشورة، أعلنت عنها في حينها مجلة "الناقد" الأدبية التي كانت تصدر من العاصمة البريطانية "لندن"، والتي كان يرأس تحريرها آنذاك الأديب والصحفي المعروف "رياض نجيب الريِّس"، وللعلم فهي من أشهر المجلات المتخصصة في الشأن الأدبي، ولها مكانتها ومتابعيها المرموقتين، فيها تقدَّمت بمجموعتي الشعرية الثانية وكانت بعنوان "إلى آخر الليل تبكي القصيدة" بعد تشجيعٍ من صديقي القاص والناقد الراحل "محمد محي الدين مينو" الذي أشرف على تدقيقها لغوياً، ليكون الفوز بالمرتبة الأولى من بين مئة وواحد وعشرين متسابقاً هو ثمرة نجاحي الثانية، وفي سنة 1990 تبنت "دار الريِّس" نشر المجموعة الفائزة بالمسابقة على حسابها، لتلحقها بالصدور في ذات العام المجموعة الأولى، التي كنت قد تقدَّمت بها لاتحاد الكتَّاب العرب وعنوانها "شيطان الأغنية الأخير"، وهنا كان انتسابي لعضويته أيضاً، أمَّا مجموعتي الثالثة فقد صدرت كذلك عن الاتحاد عام 2000 تحت عنوان "بابها مغلقٌ وخريفي قريب"».

الدرع التكريمي له من قبل وزارة الثقافة

عن المواضيع التي تناولها في نتاجه الشعري عموماً قال: «أحلام المواطن العربي وآماله التي هي - حسب منظوري الخاص - صعبة التحقق، وكثرة الانكسارات والخيبات التي ترافقها، إلى جانب إيماني بأنَّ الحبَّ بكافة صوره وأشكاله هو الحاجة التي يفتقدها الإنسان العربي في حياته، وإظهاره كواحةٍ يلجأ إليها من متاعب همومه وأحزانه، هي أكثر المواضيع التي ركَّزت على إظهارها في مجموعاتي الشعرية كافةً، طبعاً المرأة كان لها حضور أساسي في قصائدي، فكانت الحبيبة، والأم، والشريك الأساس للرجل في كلِّ ما يعانيه، وهي برأيي الحاجة والصدر الحنون الذي يحنو عليه عند كلِّ شعورٍ بالتعب والألم، كما أنَّ البيئة التي ولدت وترعرعت فيها لم تغب عما كتبته، فهي كانت وما زالت الملهم الأكبر، ليس لي فقط بل لكلِّ الشعراء والكتَّاب أينما وجدوا، وقد يتجلى إبداع الشاعر بشكلٍ واضحٍ في حالات الحنين لبيئته عندما يكون بعيداً عنها خصوصاً، كما حصل معي عندما غادرت "حمص" وعاصيها مرغماً مع بداية الأحداث المؤلمة التي شهدتها، واضطراري للإقامة في مدينة "العاصي" الثانية "حماة"، فكتبت لها وهذا بعضٌ منه في الأبيات التالية:

نقصَتْ ضلوعي مذ هجرتُ مدينتي وانهدَّ ظهري مذ تركت دياري

ولو استطعتُ جعلتُ كفي ريشةً ولو استطعتُ رسمت قلبي العاري

ولو استطعتُ نزعتُ اسمك من دمي وهجرتُ حرف الحاءِ في أشعاري

وجعلتُ قلبي في ربيعكِ صخرةً ونزعتُ حرف الراءِ من أشجاري

لكنَّ عاصيكِ المسافر في دمي هو خيمتي وخمياتي ودثاري».

الدكتور الشاعر "غسان لافي طعمة" عنه يقول: «تنبأت بالشأن الذي سيحققه صديقي الشاعر "عبد النبي التلاوي" لذاته مذ سمعت بعضاً من قصائده عن طريق شقيقي، والتي ألقاها خلال أحد معسكرات الشبيبة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ولم يتأخر ذاك التنبؤ ليصبح حقيقة بعد سنواتٍ قلائل، حيث بدأت مشاركاتنا معاً في المهرجانات التي كانت يقيمها فرع "اتحاد شبيبة الثورة" ورابطة "الخريجين والجامعيين" ومعهم فرع اتحاد الكتَّاب العرب في مدينة "حمص"، رومانسية الشاعر "عبد الباسط الصوفي" وحداثة "أدونيس" و"محمود درويش" نجدهما مجتمعان في قصيدته التي تمثل برأيي مفهوم رومانسية الحداثة الشعرية بأبهى صوره، وقد عبَّر في نتاجه الشعري عموماً عن التجربة الحياتية بكلِّ تجلياتها، فالإنسان في ألمه وفرحه، وفي حريته وعبوديته، هو الركيزة الأساسية لمواضيع أشعاره التي تميزت برؤيةٍ واضحة، وبلغةٍ شعرية مميزة».

صديقه ورفيق مسيرته الشعرية المهندس الشاعر "محمود نقشو" ذكره قائلاً: «هو رفيق الأيام الجميلة العاطرة بالشعر المملوء ألماً وحنيناً وحبَّاً، تلبَّسه مبكراً فانحاز إليه، دخل من بابه العريض بذاكرةٍ زاخمة من الشعر الكلاسيكي القديم، وبالرغم من ذلك، فقد تلبسته الحداثة الشعرية بكلِّ حالاتها المعلنة وغير المعلنة، مكوِّناً مداراً خاصَّاً به في الدوران حول الشعر، متطلَّعاً إلى التجديد في أساليب ومضامين ولغة القصيدة الحديثة القائمة على التفعيلة الشعرية، وبرأيي فقد بقي شاعراً مخلصاً لقصيدته ولم تغره مطلقاً كلُّ الانفعالات المرافقة للحياة الشعرية العربية عموماً، والسورية منها على وجه الخصوص ومبدعاً فيها، تأخذني سلاسة الجمل في جملته الشعرية وانسيابيته فيها لدرجة الالتحام والتوحّد أيضاً، والحبكة المُحكمة لها، وما ميزه خصوصاً تلَّمسه للتحولات الحداثية الجارية في الشعر وإعادة تحويلها وفق زاوية رؤيته الخاصة به».

نهايةً نذكر بأنَّ "عبد النبي التلاوي" من مواليد مدينة "حمص" عام 1954 متزوجٌ ولديه خمسة أولاد وحالياً هو متقاعد من وظيفته العامة، حضوره كان بارزاً في المهرجانات الشعرية على اختلاف المناطق السورية التي احتضنتها، ومنها مهرجان "أبي العلاء المعرِّي" وملتقيات "تشرين" الشعرية، كما شارك في مهرجان "بيت الشعر الأول" في "الأردن"، وتمَّ تكريمه في العام 2017 من قبل وزارة الثقافة ضمن فعاليات مهرجان "حمص" الثقافي.