في هذه الرواية الشاقة ، القصيرة (120صفحة من الوسط)، يذهب سليم بركات بعيدا في بناء متاهة أدبية، أبعد مما ذهب في روايته العنيدة، ذات القشور السميكة واللب الذي لا يطال (سوى من المقامرين)، رواية “أرواح هندسية”.

في الفصل الأول يعرف الروائي بأهم الشخصيات التي ستقدم المشهد وهم الستة ( ماسيلدي وغيرموهالي وجيما ترك ورامو سيرا سمو والمرأتان داهناليدا ونيديدا ) الذين يتحاورون في مكان افتراضي : تحت الثلج و حول وجبة من لحم الرنة المدخن عن غريب يبحثون عنه ليسلوه أو يسليهم، تركوا أرضهم، أرض السحلبية الزرقاء – زهرة المغيب الناقص، إلى خليج مورتفيك " التائه" في سبيل هذه الرغبة العجيبة، في الفصل التالي تعرف الرواية بالقطب الآخر في الرواية ومحورها الأهم، تعرفه الشخصية بصفته الأميز (الرجل المرهق العينين)، لن يكون له اسم، صفته أهم من اسمه، نجده جالسا على جذع شجرة مهشم، مدة الرواية كلها، مطلا على خليج اودن وخليج مورتفيك، منهمكا، بلا توقف في شحذ مديته على المبرد، الرجل يحاور نفسه، شاكيا من وحشة الثلج وإضاعة الأمكنة، والبرد والبياض العقيم، دموعه تتساقط لكن بلا سبب ظاهر أو حزن مألوف، تبدو دموعة لا إرادية مثل الشهيق والزفير، يلتقي الستة بصاحب المدية والمبرد فيبتهجون به، حاسبينه غريبهم المطلوب لكن الرجل يستمر في الشحذ، غير مبال بهم وكأنهم أشباح أو أطياف من عالم آخر أو بالأحرى هم شخصيات طيفية ارواحية، برزخية. في الفصل الثالث يدور حوار بين الستة عن مفهوم الغريب وصفاته وعن مفاهيم الكمال والوحشة والهدوء على مسمع الرجل المستمر بلا نهاية في سنّ مديته، الذي يتجلى مذهبا في الخلود؟ (يروي ميلان كوندير في كتاب الخلود حكاية عن عمدة قرية مورافيو الذي كان يتمدد في تابوته ليستأنس الموت ويروي ايضا عن فاليري جيسكار ديستان انه كان ينام إلى جوار الموتى ليتذوق الخلود.. إما الخلود " التقليدي" الذي سعى إليه جلال الناجي احد فتوات حرافيش نجيب محفوظ وسليل عاشور الناجي فهو بناء مأذنة عملاقة). تظهر شخصية المرهق العينين في منولوجاته، لقد جاء من ارض دوكون عابرا سهول دوسخو مع مائتين من الرجال وهم يجرون بالأيائل سفينة على جذوع الأشجار، ابحروا بالسفينة في البر! للاستيلاء على تماثيل ثلاثة مزعومة منتصبة على صخرة قبال بحر هيلا كريتو ثينيس، التماثيل والبحر هي من الأماكن والكائنات التي اشتركت في الرواية قبل الأخيرة( ثادريميس)، لكن لا تماثيل. يعود المائتين، إلاه، عبر أخدود تاييس المفقود، ويفضل المرهق العينين العودة من الطريق نفسه الذي جاء منه، لكنه أضاع الطريق. ليس من أي فعل منتج مثمر ايجابي في الرواية، الحياة والأفعال في الرواية عبث مطلق.

في الطرف الأخر ( ليس في الرواية أطراف أو جبهات أو صراعات أو دراما بالرغم من تصاعد الرواية سرديا وبنائيا) تقوم قبيلة الستة بشي لحم الخنانيص في ساحة (العظام المرايا) فيما يقوم الستة بإشعال النار بورق كتاب، ليس لأنهم ( تتار) أو لأنهم جهلة أو أميون بل لأنه ( كتاب منجز بتمام غايته). بالنار يمتحنون الذهب عادة لكن "الموتى المبتدئون " يختبرون الكمال بحرقه، يريدون إثبات إنهم إحياء ( يعتقد ايضا انه رأي سليم بركات الثقافي الروائي في الكتب والروايات الكاملة التي تنهي حكايتها وموعظتها بجملة خاتمة تلخصها، ولا تحترم خيال القارئ ، النار تثير ضجرهم ، الضجر، احد المفردات التي تتكرر في الرواية، لكن غير سأم البرتو مورافيا الذي عرفناه في روايته الشهيرة، الضجر يدفع جيماترك إلى طعن يد "غير موهالي" مع فخذه بمدية ( لفعل شئ ما) ينتهيان من الطعنة و ينهضان وكأنهما قصا اظافرهما؟!

تتوالى الإحداث والمشاهد الخيالية المفتقدة إلى السببية وشروط الحياة والفعل الانساني، ينتبه المرهق العينين إلى خروج رجل من الماء ( مبتلا ، نعم مبتلا) يقول له انه على عجلة من أمره، ثم يتضح انه من جراري السفينة ( سفينة التيه) في البر آلاف الفراسخ، يسأل عنها؟ وعن البحر (الممل) : ماذا يفعل هنا؟ يتضجر العجول البرمائي ثم يأخذ مدية المرهق العينين ليقتل البحر ! يغوص في المياه كما جاء، اختلفت هنا طبقة التخييل عن رواية فقهاء الظلام، عندما نما لأمام الجامع الملا احمد غلاصم، الرجل برمائي دون ان تكون له غلاصم، مشهد أخر يتضافر مع المشاهد الفانتازية.

يتقابل اثنا عشر شيخا، باحثين ايضا عن التسلية، مع للرجل المرهق العينين لعلهم يسلونه، يصفونه بأنه منكوب (بحمى البرزخ) ثم يقترح احدهم تقييده، فيرفض الآخرون، والرجل مواظب على "الخلود"، يتساءلون عن سبب وجود زحافات مهترئة حوله، يصنعون له مقعدا تطوعا، يعرف السرد بطرفي الخلود، المدية والمبرد في فصلين مستقلين ويعاملهما بوصفهما كائنات روائية ويحلق بركات كعادته في اشراك عناصر الكون وتوظيفها؟

يريد الأربعة الشباب والشابتان إقناع الشيوخ الاثنا عشر الذين يتصرفون كالأحياء بأنهم موتى مثلهم، دونما طائل، الشخصيات كثيرة وتتحرك على مجموعات عددية لها ذاكرة غنوصية (ستة ، اثنا عشرة، مائتين) يتحاورون حول المصادفة والاقتفاء ومعنى الغريب، والصمت ويلبسون أقنعتهم لأن (الأقنعة اعتراف)، او لأن وجوههم غير كافية.

تطلب العجوز سود من ابنتها الطلب التالي (تصنعي انك أبي) وتقول دورنيما ( لا امرأة تلد، يلد الطفل أمه، يلدها من صرخته) ويستنتج فيناكو ان على المرء ان يموت مرتين. في المشهد الأخير الذي يتابع عبثيات الرواية الخيالية( في أماكنها وأحداثها ومنطقها وزمنها الذي هو زمن البرزخ) يتحرك الرجل المرهق العينين ( مشى تواكبه قطرات الدم متلاحقة تكلم الواحدة الأخرى بلسان البقاء النازف، جاور الجمع الواجم، نظر إلى الوجوه في ثقل: هذا خليج اودن" قال فغمغموا مشدوهين " ا نه يكلمنا بحروف لغتنا!!أكمل الرجل المرهق العينين سيره فعبر الجمع الواجم، رفع صوته من غير ان يلتفت إليه احد " لا احد في خليج مورتفيك"، وتنتهي الرواية.

تشبه الرواية التي تجمع بين عبثية صموئيل بيكيت وصوفية الشرق، لوحة تشكيلية سريالية، الرواية تهمل البعد الثالث بأكثر مما فعل البيرو كامو مع رواية الغريب، التي، ركزت شغلها على حدث واحد فقط ، هو حدث القتل الذي اقترفه ميرسول( بسبب الشمس). هنا كل الاحداث غريبة بدون ان يأبه بها احد، او يمكن ان نقول ان سليم بركات الذي يعيش منفيا في الغرب اختار ان يرسم شخصيات تشبه حياة المنفى !! لطالما أشرك بركات اللامرئيين والأشباح والموتى في رواياته مع الأحياء( الريش، معسكرات الأبد، أرواح هندسية) لكنه كان يتفق مع القارئ تصريحا بهذا الإجراء الفني، كان حلا أو حيلة أدبية، هنا يظهر الفعل قدرا روائيا، الفارق هنا ان جميع الشخصيات تظهر عادية وتتصرف بلا معقولية، ويعتقد ان فكرة موتى مبتدئون سببها غربة بركات التي تشبه الموت في منفاه الجليدي في السويد الباردة، فجمع وحشته مع وحشة السويد التي تعيش ترفها الاقتصادي والاجتماعي إلى درجة غياب الطموح او الغاية، أو إلى درجة أنهم يتصرفون كغرباء أو كموتى مبتدئين.

يذكر سليم بركات أمكنة كتابة الرواية ( وهو تقليد روائي ) بمكانين، المكان الروائي الذي عاش فيه خيالا وبالسويد الذي يعيش فيه كميت ابتدائي (أو العكس )و يذكر زماني الرواية، القرن الثاني عشر الميلادي والآن طبعا.