جعلت الواقع منهلاً لكتاباتها مستخدمةً أسلوبها الخاص في الوصول إلى عقل وقلب القارئ، لتحصد ثمار نجاحها كروائية شابة، إلى جانب النجاح كمدرِّسة جامعية للغة الإنكليزية.

"بوران عربش" كانت ضيفة مدوّنةِ وطن "eSyria" التي التقتها بتاريخ 21 أيلول 2020 من أجل التعرف على تجربتها، كمدرِّسة جامعية وكاتبة روائية مبتدئة، والبداية كانت عن مرحلة النشأة والدراسة وعنها قالت: «مرحلة الطفولة قد تكون هي أجمل ما يراود ذاكرتي، على الرغم من الحركة النشطة التي كانت تعيشها مدينتي، إلا أن البيئة الريفية المحيطة، وبساطة الحياة والناس، هما عناصر تلك الذكريات الجميلة، دراستي بمراحلها كافة أتممتها فيها، والدي كان مهندساً ووالدتي صيدلانية، لذا فإنّ التشجيع على التفوق الدراسي والتحصيل العلمي العالي كانا يرافقان مراحل دراستي مع أشقائي، وقد ترجم ذلك عند حصولي على وسام الريادة على مستوى القطر في مسابقات "الرواد الطليعيين" لمادة الرياضيات عام 1997، وتابعت تفوقي لحين حصولي على الشهادة الثانوية (المفاجأة) بمجموع قدره 204، الشغف بدراسة الإعلام كان مراوداً لي، لكن تعلقي بأسرتي وخوف الابتعاد عنهم، ونصيحة والدي لي، دفعاني لدراسة اللغة الإنكليزية في كلية الآداب بجامعة "البعث"، التي تخرجت منها سنة 2008، لأنتقل بعدها لمرحلة جديدة من حياتي».

بالنسبة لي "بوران عربش" أديبة شابة، وقاصَّة موهوبة، قرأت لها روايتها "شهيق.. زفير" فلمست جودة السرد، وحسن المعاني، من خلال استخدامها للفظ الملائم، التعبير الواضح، الخيال الخصب، والمعاني الجميلة، لم يفاجئني أسلوبها بتاتاً لأني كما عهدتها منذ أن درَّستها، تلك الطالبة المشعة بنور الكتابة الأدبية، إن ما يميز قصتها هو انفعال القارئ مع الأحداث الجارية فيها، وشدَّة متابعته لها حتى النهاية، وهذا برأيي هو الأدب الحقيقي الذي يجعل القارئ متفاعلاً مع مشاعر الكاتب ومنفعلاً معها، حيث يمضي معه بشوق حتى النهاية، مثابرتها هذه قد تضعها في مكانة مرموقة في عالم الأدب والأدباء

عن تلك المرحلة وما شهدتها من تطورات تتابع قائلة: «انخرطت في مهنة التعليم فوراً بعد التخرج من الجامعة، وبدأت رويداً رويداً أتعلق بها، من خلال الأثر الذي كنت ألمسه لدى طلابي الذين أدرِّسهم، وقد استمر ذلك مدة عامين متتالين، وفي العام 2011 كنت على وشك البدء بتحقيق حلمي الجديد، ألا وهو افتتاح المعهد التعليمي الخاص بي، وكان ذلك قاب قوسين وأدنى من التحقق، لولا الاضطرابات التي شهدتها البلاد، وبالأخص مدينتي "القصير" التي بدأت الأحداث فيها تتجه صوب المظاهر المسلحة بأخطر صورها، بعد الصمود لأكثر من عام ونصف العام هناك، والعيش وسط المخاطر والحصار، كان لا بدّ من الانتقال، وهذا ما حصل، حيث انتقلنا للعيش في مدينة "حمص"، كان ذلك سنة 2012.

وسام الريادة الطليعي مع بعض من منشوراتها الأولى في صحيفة العروبة

التوقف عن العمل ووقت الفراغ الطويل، نتيجة توقف عجلة الحياة والعمل بسبب ما كان يجري حينها، دفعاني لمتابعة دراساتي العليا، التي بدأتها في "المعهد العالي للغات" حيث درست فيه لمدة عام كامل، وحصلت في نهايته على شهادة "تأهيل وتخصص في تعليم اللغة الإنكليزية"، ونلت المرتبة الأولى على الدفعة بمعدل 89%، الأمر لم يقف هنا، بل تابعت مشوار التحصيل العلمي الأعلى، لحين حصولي على شهادة الماجستير عام 2014، لتكون بداية لمرحلة جديدة أخرى مختلفة عما سبق».

تضيف "بوران عربش" شرح المرحلة اللاحقة وتقول: «أثناء الدراسة لعامين في مرحلة الماجستير كنت أقوم بإعطاء ساعات تدريسية لطلاب كلية الآداب بجامعة "البعث"، هنا بدأت فعلياً في مهنة التدريس الجامعي، التي تختلف كلياً عن تدريس طلاب المراحل السابقة، وللعلم فقط، فإنني كنت حريصة على تعليم الفئات العمرية في مرحلة ما قبل الجامعة، لأنّ أثر المعلومات الذي أتركه فيهم لا يمكن نسيانه، خلافاً للطلبة في مراحل الطفولة، الذين تتبدل ذاكرتهم مع تطورهم العمري، عام 2014 انتقلت للتدريس في جامعة "الحواش" الخاصة، خبرة جديدة اكتسبتها فيها، حيث الأسلوب التدريسي مختلف عما سبقه، كون أعداد الطلبة في القاعة الواحدة قليلة، وهذا ما يسهل على المدرِّس عملية إيصال المعلومات والنقاش فيها، استمر وجودي هناك حتى العام 2016، ليحط بي الرحال في رحاب جامعة "القلمون" الخاصة إلى يومنا هذا، علاقتي مع طلبتي هي أكثر من علاقة مدرِّس وطالب معاً، بل تأخذ في غالب الأحيان طابع الصداقة والأخوة، وهذا ما يمكنني من معرفة مكنونات شخصية كلٍّ منهم على حدة، وهذا له دور هام في تحسين صورة ونتائج العملية التعليمية لاحقاً».

روايتها الأولى

وعن تجربتها الأدبية، والخطوات التي مرت بها تلك التجربة قالت: «الشهادة الثانوية (المفاجأة) التي ذكرتها في بداية حديثنا، هي النقطة الأساس في كلِّ ما جرى معي لاحقاً ووصلت إليه، لأن دراستي للفرع العلمي استمرت لحين نجاحي في الصف الثاني الثانوي، لكن تقدمي لامتحان الشهادة الثانوية كان في الفرع الأدبي، وحصل ذلك سرَّاً عن عائلتي؛ بسبب عدم رضاهم أولاً، وثانياً: لأنني كنت مدركة للميول الأدبية في داخلي، التي بدأت تظهر مذ كنت طالبة في الصف الثاني الإعدادي، حينها كنت ألحُّ على مرافقة شقيقي -الذي يكبرني بعام واحد- إلى دروس اللغة العربية، حتى أنني كنت أشارك الطلاب الموجودين هناك بإنجاز الفروض المطلوبة منهم، وبالأخص في مادة التعبير الأدبي، هنا أذكر تلك الجملة التي قالها لي أستاذ اللغة العربية في ذلك الوقت "يوسف اسطفان" عندما قرأ ما قدمته (يوماً ما ستصبحين كاتبة مميزة) ذلك الحدث كان في عام 2000، الكتابة لدي كانت مجرد خواطر صغيرة جداً لما أشاهده ويلوح في خاطري، احتفظت بكتاباتي إلى ما بعد تخرجي من الجامعة، وبعدها بدأت بالخروج إلى النور عبر منشورات صحيفة "العروبة" وتحديداً في صفحة "عبقر" الخاصة بالهواة من الكتَّاب والشعراء الشباب، والتي كان يديرها ويشرف عليها لحين أيامنا هذه الدكتور "غسان لافي طعمة"، الذي أشاد بمراسلاتي، وشجعني على المضي والاستمرارية أكثر فيها، لبيت طلبه وواظبت على الإرسال، لكن النشر لم يكن بإسمي الصريح خوفاً من ملامة الأهل لي، إلى أن جاء العام 2008 حيث كان الظهور الأول لاسمي على صفحة الجريدة، والسبب كان الإعلان عن زيارة السيدة "فيروز" إلى "دمشق" والغناء فيها بعد انقطاع سنوات طويلة، أذكر ذلك العنوان الذي وضعته لخاطرتي حينها وهو "صباح الفيروز يا شام"، كنت وما زلت مولعة بكتابة ما يجري حولي من أحداث، ومواقف على بساطتها، ولأنني ذكرت فيما سبق الشغف بدراسة الإعلام، فقد توليت تقديم الحفلات التي كانت تقام في مدينتي، وأهمها "أسبوع مار الياس الثقافي الأول" الذي نظمته "أخوية شباب مار الياس الجامعية" عام 2007، من بين الحاضرين حينها كان الفنان القدير "دريد لحام"، شهادته لي بأنها المرة الأولى التي يقدمه فيها أحد ما بهذا الأسلوب كما يريده هو، زادت من تعلقي بالكتابة والتقديم اللذين استمرا حتى خلال وجودي في الجامعات التي وجدت فيها كمدرِّسة وحتى الآن».

بدايتها مع كتابة الرواية وما حققته فيها، عن ذلك قالت: «في رصيدي روايتان، الأولى صدرت عام 2019 عن وزارة الثقافة عبر الهيئة العامة للكتاب وقد حملت عنوان "شهيق.. زفير"، وهي تتألف من 375 صفحة من القطع المتوسط، عكست فيها حقيقة الأحداث المؤلمة التي عشناها في مدينة "القصير"، بكل ما فيها من الخوف، انعدام الأمان، والقهر بأبشع صوره، والتي حملتها ذاكرتي بعد النزوح منها عام 2012، الرواية تناولت مواضيع قد تكون حساسة لدى البعض من القرَّاء، خاصة فيما يتعلق بموضوع التشدد الديني، والإيديولوجيات التي تحكم نهج وأفعال أولئك المتشددين، الذي حملوا السلاح في وجه أبناء جلدتهم ومدينتهم، الذين عاشوا معهم عشرات السنوات، يتشاركون الماء والخبز معاً، والفرح والحزن سوية، لذا حرصت قبل تقديمها إلى الهيئة على مراجعتها مع بعض المختصين، كلُّ ما في الرواية كان حقيقياً باستثناء بعض الشخصيات فيها، بعكس روايتي الثانية "زحمة حب" والتي تقدَّمت فيها إلى مسابقة الأديب "حنا مينه" التي أعلنت عنها وزارة الثقافة منذ شهور مضت، حيث تناولت فيها كذلك شخصيات حقيقية بالكامل، مع بعض ما مرَّوا به من أحداث مفصلية في حياتهم، وتابعت بناء الهيكل العام للرواية كما هي زاوية رؤيتي للأحداث مستقبلاً، لكنها بالتأكيد واقعية مئة بالمئة».

مدرِّس اللغة العربية يوسف اسطفان

المربي ومدرِّس اللغة العربية "يوسف اسطفان" في مداخلة رأيه عنها قال: «بالنسبة لي "بوران عربش" أديبة شابة، وقاصَّة موهوبة، قرأت لها روايتها "شهيق.. زفير" فلمست جودة السرد، وحسن المعاني، من خلال استخدامها للفظ الملائم، التعبير الواضح، الخيال الخصب، والمعاني الجميلة، لم يفاجئني أسلوبها بتاتاً لأني كما عهدتها منذ أن درَّستها، تلك الطالبة المشعة بنور الكتابة الأدبية، إن ما يميز قصتها هو انفعال القارئ مع الأحداث الجارية فيها، وشدَّة متابعته لها حتى النهاية، وهذا برأيي هو الأدب الحقيقي الذي يجعل القارئ متفاعلاً مع مشاعر الكاتب ومنفعلاً معها، حيث يمضي معه بشوق حتى النهاية، مثابرتها هذه قد تضعها في مكانة مرموقة في عالم الأدب والأدباء».

زميلتها المدرِّسة الجامعية والصحفية "لاما الحسنية" عنها تقول: «هي صديقة مقربة لي، غير أنها من الشخصيات التي تدخل إلى قلب الإنسان دونما استئذان، أهم ما يميزها برأيي رقة وجمال روحها، على الصعيد العملي، هي إنسانة جادة ومتفانية في عملها لأبعد الحدود، استطاعت كسب جمهور واسع من طلبتها؛ لقربها منهم، والحب الذي تقدمه لهم، فهي تعمل على الاستماع وفهم مشاكلهم، وتشجيعهم على تحقيق أحلامهم التي قد تبدو بعيدة في ظل ظروف الحرب وما أفرزته، لقد وجدت "بوران عربش" في الكتابة تعبيراً عما يشعره كلُّ شخص فينا، وتحقيقاً لمبتغاها، تقودنا من خلالها إلى عالمها الخاص بعناية أدبية فائقة، تحدثت بلسان حالنا، هناك حيث همومنا، وأفراحنا الصغيرة تجد صدى فيها، وقد كانت روايتها "شهيق.. زفير" خير مثال لذلك».

نهاية نذكر بأنَّ "بوران عربش" من مواليد مدينة "القصير" التابعة لريف محافظة "حمص" عام 1987.