يعدّ "زكريا مينو" الذي ولد عام 1951، أول موثّق عرفيّ لأحداث مدينة "حمص" التي شهدت أحداثاً طريفة وغريبة؛ حيث دوّنها في عقله وقلبه قبل أن ينقلها شفهياً وفنياً إلى الناس بطرائق متعددة خالية من الزيف والتحريف؛ ليكون ذاكرة المدينة التي لا تنضب.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 12 تشرين الثاني 2015، الباحث والأديب "زكريا مينو"؛ ليحدثنا عن نشأته بقوله: «ولدت في حيّ طيني قديم كسائر أحياء المدينة هو "حي الخضر"، وهو الحال الذي عرفته "سورية" حتى فترة الستينيات، حيث شهدت بداية أول طريق مرصّف وإنارة في الشوارع، وغيرها من التطورات التي حدثت.

هو ذاكرة وخزان "حمص" الاجتماعية والثقافية، وقد عملت معه كثيراً في أعمال مسرحية، ويعد من أوائل العاملين في المسرح إخراجاً وتمثيلاً، وكان من أصغر كاتبي "جريدة العروبة" في الستينيات من باب القصة والمقالة، إضافة لخواطر وأشعار كثيرة كان يكتبها في بعض الأحيان، واستخدم ذاكرته لرسم لوحات لمدينة "حمص" ومعالمها الجميلة

بدأت أعرف الأحداث وأحفظها في سن الرابعة، وحتى الآن أتذكر جميع الحركات السياسية في "حمص" حينها؛ مرحلة تأسيس الأحزاب، والحركة التي شهدتها المدينة من حيث النهضة الفكرية، فالمدينة عرفت كتّاباً كبيرين وشعراء على مدى التاريخ، أمثال "فرج البيرقدار" الذي رشح للأوسكار برفقة "أدونيس" وقتها في فترة الستينيات، وأنا كشخص كنت أتابع هذه الأحداث منذ كنت صغيراً؛ فمكتبة بيتنا الغنية بالكتب كان لها دور كبير في ذلك.

محمد خير

أما عائلات "حمص" فهي متحدرة من "شبه الجزيرة العربية"، ومن المكّيّين تحديداً، إضافة إلى أصول أخرى مختلفة ومتنوعة؛ فهي تجمع مختلف الأعراق على مدى التاريخ، وعلى سبيل المثال عائلة "مخزوم" التي يعود نسبها إلى الصحابي "خالد بن الوليد"، وأذكر قصة عن ذلك أن جدتي كانت دائماً تخبرني أنها ذاهبة لزيارة ابن خالتي؛ وهو ما أثار استهجاني واستغرابي عدة مرات، إلى حين تبعتها، وإذ بها تذهب إلى قبر "خالد بن الوليد" لكونها تقربه من سلالة الأجداد، وبيته ما يزال حتى الآن بـ"حمص" حافظت عليه السلالة عبر مئات السنين».

ويضيف: «تعد "حمص" أم الفقير كما يعلم الجميع، وهناك قصة للتسمية؛ فعند نزوح الفلسطينيين باتجاه العمق الشامي، كان هناك حمصي يملك بيتاً و"حوشاً" كبيراً بجانبه، فأصبح كل وافد يأتي إلى "حمص" يقولون له: اذهب إلى الشيخ "سليمان" لطلب مساعدته، فيعطيه جزءاً من بيته ليعمر في "الحوش" لديه، ومهجّرون كثر أتوا إليه حتى لم يبق لديه سوى بيته فقط.

عن الكرم أيضاً حكايات وعادات كثيرة، حيث كنت صغيراً أحضر الخضار لوالدتي وعندما أنتهي يعطيني صاحب المحل أشياء لم أطلبها ومن دون مقابل، ما عدا أن الكيلوغرام حقيقي في مدينتي "حمص"، فمن يحاول الغش في "حمص" بتجارته، يشهّرون به سكان الحارة حتى يغلق المحل، والعكس صحيح، فالحماصنة معروفون ولا يخفون شيئاً أبداً».

ويتابع: «أدار "الحماصنة" بأسلوب ناعم مدينتهم بنجاح قبل أكثر من مئة سنة، فمثلاً جدي "أبو حمو رجوب" كان يستدرك أي مشكلة تحدث بعزيمة على الطعام وينهي الموضوع فوراً، وكانت عائلتنا مشهورة بتلك القصص، فالسفر إلى دول كثيرة سواء من والدي أو جدتي أو جدي أضاف قيمة فكرية عالية لرؤية الأشياء من منظور جديد، فالتذوق الموسيقي موجود في عائلتنا، حيث كانت لدينا أسطوانات موسيقية، نسمع موسيقا هادئة أو مطربين عرب أو أجانب، وهذا له دور كبير في ترسيخ الوعي لدى الإنسان خصوصاً في ذلك الزمن».

الأديب "محمد خير" الصديق والشريك السابق له يقول: «هو ذاكرة وخزان "حمص" الاجتماعية والثقافية، وقد عملت معه كثيراً في أعمال مسرحية، ويعد من أوائل العاملين في المسرح إخراجاً وتمثيلاً، وكان من أصغر كاتبي "جريدة العروبة" في الستينيات من باب القصة والمقالة، إضافة لخواطر وأشعار كثيرة كان يكتبها في بعض الأحيان، واستخدم ذاكرته لرسم لوحات لمدينة "حمص" ومعالمها الجميلة».

المخرج المسرحي "خالد الطالب" الزميل السابق له في مجال المسرح والأدب، يقول عنه: «يعدّ الفنان "زكريا مينو" من المسرحيين المؤسسين للمسرح الشعبي والجماهيري في "حمص" من خلال ما كتب وأخرج من أعمال، وشاركته بأحد تلك الأعمال؛ وهي مسرحية "آه يا بلد"؛ حيث اعتمد لوحات عبرت عن الواقع المعاش حينها بصدق وعمق نظراً لما يتمتع به من روح كوميدية اقتربت إلى حد كبير لما يسمى الكوميديا السوداء، وكان يهمّه جمهور الشارع العادي وليس النخبة؛ فكان قريباً من الناس ولذلك أحبوا مسرحه واحترموه، فالمسرح بالأساس ليس الواقع بل تجسيده بصورة فنية أجادها الفنان "مينو"، واستغرق في هموم شارعه الحمصي من خلال أعماله التي كانت تعتمد النقد، لكن بطريقة لطيفة ومحببة اعتمدت لوحات تميزت بالصدق والحرفية العالية، لذلك يمكن أن يقال الكثير عن هذا الفنان الغائب والحاضر في وجدان كل من عاصر فنه عملاً أو مشاهدة، وما أحوجنا اليوم إلى فنه وإبداعه».