يعتبر الاغتراب ظاهرة عالمية وجدت مع وجود الإنسان، وسورية التي تدل روايات التاريخ على أنها الوطن الأقدم للحضارة الإنسانية كان لها نصيب وافر من ظاهرة الاغتراب على مدى العصور حيث خرجت منها موجات كثيرة من الهجرات إلى شتى بقاع الأرض والتي يمكن تتبعها عبر كتب التراث وقصائد الشعراء. ‏

أما في العصر الحديث فقد أخذ الاغتراب معاني جديدة بعد نشوء مفهوم الدول بإطارها القومي وظهور الإمبراطوريات الاستعمارية والثورة الصناعية واكتشاف العالم الجديد مع ما ترتب على ذلك من تطور أغرى الناس بالبحث عن فرص جديدة للعمل خصوصا إذا كانوا يعيشون في بيئات اقتصادية وسياسية واجتماعية قلقة. وإذا ما حاولنا تتبع ملامح الاغتراب السوري في المئتي عام الماضية فإننا لابد سنلاحظ أن ظروف الاحتلال العثماني التي مر بها الوطن العربي بكل تداعياتها كانت الدافع الأول لهجرة كثير من السوريين متوجهين إلى أميركا والعالم الجديد الذي كان يعد بفرص الرزق بعد أن ضاقت سبله في الوطن. ‏ وبلغت هذه الهجرة أوجها في بداية القرن العشرين وعلى سبيل المثال أشارت إحصائية لعدد السوريين الذين هاجروا إلى نيويورك وحدها حتى عام 1913 فقط إلى جود أكثر من عشرة آلاف مغترب سوري استقروا وبدؤوا يمارسون حياتهم في الوسط الجديد الذي وفدوا إليه. ‏

وتعتبر حمص المحافظة الأكبر التي صدّرت أبنائها المغتربين إلى جميع أنحاء العالم لذلك سميت (بأم الاغتراب والمغتربين) والمحافظة الوحيدة التي تأسست فيها رابطة ترعى شؤون كل المغتربين العرب وتسعى لمد جسور التواصل بينهم وبين الوطن الأم وبالعكس. سميت برابطة أصدقاء المغتربين. فما هي هذه الرابطة وكيف نشأت وتطورت وما هي الأعمال التي قامت بها والإنجازات التي حققتها؟

الآنسة نهاد شبوع

موقع eHoms زار مقر الرابطة في حي بستان الديوان والتقى مع الآنسة نهاد شبوع رئيسة مجلس إدارة رابطة المغتربين التي سردت لنا الحكاية منذ البدايات فقالت: "بعد 50 سنة من بدء الهجرات الكثيفة لأبناء مدينة حمص أي في منتصف القرن الماضي 1950 تقدمت جماعة من وطنييها تلملم الذكريات المعششة في جدران المدينة وقلوبها وتغزلها ضوءاً من العين وشرعاً من العقل ودفئاً من القلب وتشكل رابطة تحكم الأواصر بين الشطرين الوطن والمهجر، لكنها للأسف لم تعمر طويلاً لأسباب قاهرة كموت معظم أفرادها وسفر البعض الباقي منهم، وفي بداية السبعينات وبعد زيارتي للمهجر الجنوبي-والكلام للآنسة شبوع- لوّح المغترب الراحل رامز شقرا مرة أخرى بالفكرة داعياً لإحياء مراميها وتوسيعها وتأسيس رابطة هنا في الوطن للمغتربين هناك فأقدمنا بغبطة على هذا العمل وبدأنا تعمير وكنة الطيور المهاجرة في قلب الوطن الحنون لتكون مرآة للشوق ومنارة لهداية الأجيال البعيدة إلى شاطئ الوطن الراسخ وكانت الاستجابة في الوطن مدهشة على الصعيدين الشعبي والرسمي بدليل إنخراط خيرة مثقفي حمص في صفوف الرابطة ليعملوا فيها ورخصت رسمياً من وزارة الشؤون الاجتماعية في 15 تشرين الأول 1973، واختير عصفور السنونو الذي يرسم بمنقاره خريطة العودة شعاراً للرابطة وأصبحت الرابطة التجربة الأولى الوحيدة والناجحة في القطر العربي السوري.."

وأضافت الآنسة شبوع " كان رهاننا صعباً ولكن صدق العزيمة ونور البصيرة أحالا هذا الرهان ربحاً مؤزراً ومازلنا حتى الآن نبني للفكرة الحصون والكيان ونتمنى دائما من وزارة المغتربين أن تسدد خطانا وتكون المرجعية الرسمية لآمالنا في رسم سياسة الاغتراب مقدرين أهمية هذه الوزارة ودورها الأساسي في التعاطي الرسمي المسؤول والهادف مع الانتشار السوري في العالم".

م. العطري وسفير تشيلي في بيت المغترب 1998

وعن أهداف الرابطة وطبيعة عملها ذكرت الآنسة شبوع أنها قطاع شعبيّ يعمل على شدّ المهاجر إلى وطنه واعتبار المهجر امتداداً للوطن الأم. وبنفس الوقت تعمل على إعطاء الصورة الزاهية الحضارية للوطن، وهدفها كسب المهاجرين بأجيالهم الثلاثة وبكل نبوغهم ونورهم. وعن أهم الأعمال التي قامت الرابطة وتقوم بها قالت شبوع: "تعمل الرابطة على نشر اللغة العربية وإحياء التراث العربي في المهاجر. وطباعة آثار المغتربين الأدبية والفكرية بمساعدة المسؤولين وإصدار نشرات دورية وغير دورية، وقد ظلت جريدة حمص منبراً لهذه النشرات خلال 30 عاماً تقريباً أي حتى نهاية عام 2001.. واليوم تتابع الرابطة رسالتها الحوارية بين الضفاف بنشرتها الجديدة " السنونو" التي أطلقتها بداية عام 2003 ، كما تعمل رابطة أصدقاء المغتربين على استقبال العائدين بالنيابة عن الوطن، وإقامة اللقاءات معهم، والرحلات لهم داخل القطر لتعريفهم بحضارة بلادهم تراثاً وحداثة. وتكريمهم شعبياً باسم الوطن المفارق المنتظر، وتنظيم رحلاتهم في قلب الوطن لإطلاعهم عياناً على حضارته تراثاً وحداثة، وإقامة المهرجانات الأدبية لدى عودة الأدباء منهم، والاشتراك بمؤتمرات المغتربين ورصد مجرياتها والاطلاع على مقرراتها والاتصال بالمسؤولين هنا لنقل أماني المهاجرين وتتطلعاتهم وصوتهم في الشؤون الكفيلة بتمتين الروابط بين الشطرين المقيم والمغترب".

والخلاصة كما أكدت شبوع أن الرابطة تقدّم لأبناء الوطن المنتشرين دفتر عشق قديم، آياته الخالدةَ يرتّلون، وصفحاته الزاهية يقلّبون، فيعتزّون ويَنْشَدّون، وغدا سر نجاحها في سرّ الشجرة التي يستحيل أن تعرف لعناصرها منفردة فضلاً منفرداً إلا بنبضها الكليّ الذي يبقى السرّ الأكبر في قصة العطاء.

من زيارة وزير التربية التشيلي للرابطة 2007

"تضم الرابطة إدارياً في صفوفها نخبة من مثقفي محافظة حمص وقد وصل عددهم اليوم إلى حوالي 140عضواً يتقسّمون إلى خمس لجان. ولرابطة أصدقاء المغتربين فروع خارج القطر نذكر منها: فرع جمعية الشبيبة الحمصية في سنتياغو – تشيلي، فرع الإخاء الحمصي في لوس أنجلوس الولايات المتحدة، فرع النادي الحمصي في سان باولو البرازيل، فرع ندوة الأدب العربي في بيونيس آيرس الأرجنتين، فرع في الجمعية العربية السورية في أوتاوا كندا، وكل هذه الفروع تتجمع اليوم في مؤسسة الفيياراب أي اتحاد المؤسسات العربية الذي أضحى الرئة التي نتنفس بها في بلدان الاغتراب.

ومن بعض بعض ثمار الرابطة نذكر : (بيت المغترب) رمز حضور المهاجر في الوطن الأم وحجر أساس آخر في بناء الحلم، ثمرة نفذتها الرابطة على أن تكون نواة لبيت مغترب كبير مستقبلي أعم وأكبر تقوم بتشييده كافة فعاليات الوطن مقيمة ومغتربة ومن ثمارها أيضاً إصدار مجلة (السنونو) لتتابع رسالته واستمرار مسيرتها لتتيح لأقلام مقيمة ومغتربة من مختلف الأجيال أن تكتب فيها.كما حصلت الرابطة على وسام ريو برانكو برتبة فارس تقلدته الآنسة نهاد شبوع من حكومة البرازيل تقديرا ًلجهودها في عمليات التواصل وتهيئة المناخ اللائق للرعايا البرازيليين من أصل عربي العائدين إلى ديار جدودهم".

وفي ختام اللقاء رغبت الآنسة نهاد شبوع وبعض أعضاء مجلس الإدارة المتواجدين سرد عدد من المسائل التي يرغبون تسليط الاهتمام عليها وأهمها الحلم الذي يراود أعضاء الرابطة والفكرة التي يرجون أن ترى النور بمساعدة كل جهة مختصة وكل فرد مهتم ولا سيّما وزارة المغتربين وهي أولاً مخيمات لشباب الوطن والمهجر على أرض الوطن، تنعقد فيها لقاءات تعارفهم وتعرفهم بالوطن الأم..وفيها تقوم قراءات جديدة لتاريخه وأوابده، وتلمّس فعلي لجماله وحضارته، فلا تذويب ولا تصديق لصور مشوهة رسمها المغرضون، ولا ضياع لأواصر قرابة وانتماء كاد البعاد يغتالها..بل ثقة ومزيد من طلب الانغراس وعمل مشترك لنشر المشروع الإنساني الأكمل وتفهمه بالموضوعية والعدالة ومصداقية الحرص على الانتماء والأنسنة في عالم واحد، إضافة إلى حلم آخر هو توسيع بيت المغترب بالبيت العربي الحمصي التراثي لأنه كما ذكروا الأدعى إلى تذكير المهاجر بالطفولة والبراءة وإلى تمثل أطياف الأهل واستحضارهم واستنشاق الوطن من خلالهم..والانشداد الأوثق إلى أوطانهم التي فارقوها مرغمين.