تعتبر اللغة أهم الاختراعات التي حققها الإنسان عبر التاريخ، حيث تعتبر قدرة الإنسان على صنع الكلمات وصياغة الرموز التي تمثل ظواهر عالمه الخارجي والداخلي من أهم الخصائص التي تميزه عن بقية الكائنات. فبفضل هذه القدرة استطاع الإنسان صياغة أنساق رمزية ولغات مختلفة مكنته من التواصل مع الآخر وهذا ما جعل دراسة اللغة محور اهتمام اللغويين.

فاللغة هي أداة للتواصل بين المجتمعات الإنسانية وقد وصفها البعض بأنها العملة الأدبية المتداولة بين الناس ومن خلالها يمارس الإنسان حريته في التفكير والتعبير والمساهمة في إغناء الفكر الإنساني.

إنَّ سورية كانت رائدة منذ عشرينيات القرن الماضي في مجال المحافظة على لغتنا العربية الفصحى وذلك من خلال جعلها لغة التدريس في المجالات العلمية وخاصة الطب بينما يتم تدريس هذه المادة ومواد علمية أخرى في الجامعات العربية الأخرى إمـّا باللغة الإنكليزية أو بالفرنسية

وتكثر الدراسات والبحوث المتعلقة بلغتنا العربية الفصحى، لكن من طرقوا باب لغتنا المحكية أو العامية- التي نتعلمها منذ صغرنا وتكبر معنا لتغدوا أداتنا الرئيسة في التواصل ونقل التراث المعنوي جيلاً بعد جيل- قليلون بل يمكننا القول إنهم نادرون ففي سورية لم يدخل أحد من اللغويين هذا المجال العريض سوى الدكتور "جميل ضاهر" أستاذ اللسانيات في المعهد العالي للغات، جامعة "البعث" وذلك من خلال دراسته الوحيدة عن "اللغة المحكية الدمشقية".

موقع ehoms التقى د. "جميل ضاهر" وأجرى معه اللقاء التالي.

  • في البداية د. "جميل" سيكون لنا حديث عن علم اللسانيات، فحبذا لو تقدم لنا لمحة تعريفية عن هذا العلم، نشأته ومراحل تطوره حتى وقتنا الراهن؟
  • الدكتور جميل مع طلابه في جامعة كولمبيا

    ** يعود أول توثيق لهذا العلم إلى الهند في القرن الثالث قبل الميلاد حيث لعبت العقيدة الدينية دوراً هامّاً في التأسيس له حين لاحظ الكهنة أنّ اللغة التي يستخدمونها في شعائرهم تختلف عن لغة الفيدا Vida "النصوص المقدسة المصوغة بلغة الهند القديمة" واعتقدوا أنّ نجاح بعض الطقوس يحتاج إلى استخدام اللغة القديمة ما تطلب إعادة إنتاجها.

    فقام الكاهن "بانيني" قبل ألف سنة من الميلاد بإعداد القواعد النحوية الضابطة للغة السانسكريتية لاستخدامها في الطقوس الدينية. وكان " أرسطو" أول الفلاسفة اليونانيين الذين اهتموا بدراسة العلاقة بين الأشياء وأسمائها للتعرف من خلال ذلك على القواعد التي تحكم اللغة، وبحلول القرن الرابع قبل الميلاد قام اللغوي الروماني "أليوس دوناتس" بصياغة عامة للنحو اللاتيني. وقدم اللغوي "بريسكيان" شرحاً لهذه القواعد في القرن السادس الميلادي وبقيت على ما هي عليه حتى وقتنا الحاضر، وظلت اللغة اللاتينية اللغة الأكثر انتشاراً حتى نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر مع تحول اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى لغات عالمية ونشأ علم الصوتيات الذي دفع علماء اللغويات للمقارنة بين اللغة السنسكريتية واللغات الأوروبية وأدى إلى نشوء دراسة اللغات الهندو- أوروبية.

    الغلاف الخارجي لرسالة الدكتوراه

    وبعد ذلك قام السير "وليام جونز" بتأسيس علم اللسانيات المقارن وذلك في نهاية القرن الثامن عشر لدراسة ومقارنة النصوص المكتوبة بلغات مختلفة، وفي بداية القرن العشرين بدأ علماء اللغة يدركون الحجم الهائل الذي أسند لتاريخ اللغات على حساب اللغة في حد ذاتها، فكانت نقطة تحول هامة في دراسة اللغة إذ أصبح من الضروري العودة إلى دراسة اللغة كظاهرة ثابتة ضمن نسق جديد يعتمد أساساً على طريقة علمية لدراسة اللغة وكان ذلك ميلاد اللسانيات الحديثة على يد العالم السويسري "فرديناند دوسوسير".

  • ماذا يدرس علم اللسانيات، وما الأقسام التي يتكون منها؟
  • ** يهتم علم اللسانيات بدراسة اللغات الإنسانية ودراسة خصائصها وتراكيبها وأوجه التشابه والتباين فيما بينها، ولهذا العلم عدة أقسام منها على سبيل الذكر علم اللسانيات التوليدية الذي يهتم بدراسة "علم الصرف، الصواتة، علم المعاني، علم المعاني والمفردات، علم المعاني الإحصائي"، وعلم اللسانيات الوصفية الذي يدرس "علم النطق، اللسانيات التاريخية، اللسانيات الاجتماعية"، وعلم اللسانيات التطبيقية الذي يهتم بتعلـّم وتعليم اللغات وهناك أيضاً: اللسانيات النفسية، اللسانيات العصبية، اللسانيات الإدراكية، اللسانيات الحاسوبية.

  • ننتقل الآن د."جميل" للحديث عن الرسالة التي حصلت بموجبها على درجة الدكتوراه من جامعة "نيويورك". ماذا كان عنوان هذه الرسالة، وكم عاماً استغرق إعدادها؟
  • ** استغرق إعداد هذه الرسالة ست سنوات، وهي بعنوان "التمايز اللغوي في العربية المحكية في دمشق: تحليل كمي لكلام الرجال والنساء" مكونة من /314/ صفحة مكتوبة باللغة الإنكليزية. وحسب معرفتي،هي الدراسة الوحيدة من نوعها فيما يخص اللغة المحكية في سورية ويوجد نسخة منها في مكتبة "الأسد" في "دمشق".

  • هل كان هناك منهج علمي معين تم اتباعه أثناء إعداد هذه الدراسة، وما الصعوبات أو المعوقات التي واجهتها أثناء بحثك؟
  • ** نعم كان هناك منهج علمي خاص حيث اعتمدت الدراسة بشكل أساسي على البيانات المأخوذة من مقابلات شخصية مسجلة على أشرطة كاسيت أجريت مع /46/ شخصاً من أبناء مدينة "دمشق" الأصليين من الرجال والنساء من أعمار وخلفيات ثقافية مختلفة، وغالباً ما كنت أعمل على حذف الدقائق الخمس الأولى من المقابلة لأن الشخص المقابل خلال هذه الفترة يكون واعياً وقد يستخدم اللغة الفصحى حصراً، وكنت أستخدم نوعاً معيناً من المقابلات المطروحة في علم الاجتماع اللغوي مثل "الطلب من الشخص المقابل أن يتحدث عن منام شاهده أو عن حادثة معينة حصلت أو أن يروي قصة أو حكاية طريفة" والهدف من ذلك هو الحصول على الكلام الطبيعي من المتحدث، وبعد الانتهاء من إجراء المقابلات تم العمل على تحليلها بواسطة برنامج حاسوبي يدعى VarbRul مصمّم خصّيصاً من أجل التحليل الإحصائي اللغوي فمثلاً لو تضمّنت المقابلة /6000/ كلمة، يمكن الحصول عن طريق البرنامج على الكلمات التي تم فيها استبدال صوت القاف بالهمزة أو استبدال صوت الثاء بالسين أو التاء. وفي النتيجة النهائية أخذت بعين الاعتبار أربعة عوامل اجتماعية هامة للأشخاص المتحدثين وهي جنسهم وأعمارهم ومستواهم الثقافي والى حدٍّ ما مهنهم وعملهم في المجتمع وعوامل أخرى ذات تأثير في التمايز اللغوي والتنوع اللفظي مثل تعامل المتكلم مع اللغة المكتوبة. أما فيما يتعلق بالصعوبات التي واجهتنا فقد اقتصرت على إقناع الناس بالكلام والحديث بوجود آلة تسجيل ليس أكثر.

  • ما الهدف من هذه الدراسة، وما النتائج التي تم التوصل إليها؟
  • ** كان الهدف الرئيسي من الدراسة هو توضيح الاختلاف والتنوع في استخدام الرجال والنساء في مدينة "دمشق" للغة الفصحى والعامية بشكل عام وبشكل خاص لفظ المتغيرات التالية "ق، ث، ذ، آو، آي" في كلامهم اليومي وتبيان الارتباطات المتبادلة المحتملة لذلك التمايز اللفظي مع عوامل مختلفة في البيئة اللغوية وعوامل أخرى اجتماعية مثل الجنس والعمر والمستوى الثقافي للمتكلم.

    ولقد كان هناك العديد من الدراسات المشابهة التي تمّ اعدادها في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا نتج عنها أنّ النساء بالمقارنة مع الرجال يستخدمن في حديثهن اليومي معيارات كلامية أقرب الى الفصحى منها الى العامية والسبب يرجع الى وضع المرأة الاجتماعي الذي ينظر اليه بمستوى أقل من وضع الرجل وانشغالها ولو بشكل بسيط في تربية وتعليم أولادها. لذلك فالهدف الآخر من الدراسة كان معرفة ما إذا كان وضع المرأة في المجتمعات العربية- والذي لا يعتبر أفضل من وضع المرأة الغربية- عاملاً أساسياً في ميول المرأة العربية الى استخدام معيارات كلامية أقرب الى الفصحى. وتمّ أيضاً ربط هذه الاختلافات بنظرية ازدواجية اللغة والتي تعتبر حالة من وجود شكلين من أشكال اللغة الواحدة أو أكثر وجوداً مشتركاً وكل شكل له وظيفة خاصة، فالعامية تستخدم في الكلام اليومي "الحديث العادي" أما الفصحى فلها دور الحديث الرسمي مثل "التعليم والخطابات"، كما اهتمت هذه الدراسة بالعلاقة التاريخية والمعاصرة بين اللغة العربية المعيارية "الفصحى" واللهجة الشامية "التي يستخدمها سكان مدينة دمشق ممن هم من أصل دمشقي" من ناحية القواعد والصوتيات والكلمات ووضحت بالأمثلة الاختلافات والتشابهات بينها.

    ومن الاستنتاجات التي توصلت إليها هذه الدراسة أن النساء الدمشقيات- بغض النظر عن المستوى الثقافي- يستخدمن في حياتهن اليومية معيارات كلامية أقرب الى العامية منها الى الفصحى "عكس ما كان متوقعاً" لأسباب منها أنّ العامية بنظرهنّ أقرب الى الحداثة والرقي وفيها يتم استخدام كلمات أجنبية والفصحى ما هي إلا لغة الرسميات وهي للرجال. كما استنتجت الدراسة أنّ كلامنا دائماً متغيّر وليس ثابتاً بشكل صريح، فاللغة الفصحى واللغة العامية ينظر إليهما بدقة أكثر كطرفين افتراضيين لسلسلة متصلة من التنوع اللغوي والتي يكون فيها الكلام خليطاً أو مزيجاً من شكلي الفصحى والعامية.

    والناس بشكل عام يميلون في أغلب الأحيان لاستخدام طريقة لفظ مرتبطة مع المجموعات الاجتماعية من أجل التماثل والاندماج معها، كما أن الاختلاف والتمايز بين كلام الرجال والنساء ما هو إلا- وبشكل جزئي على الأقل- نتيجة لحقيقة أنهم يمارسون أو يتمنون أن يمارسوا أدواراً مختلفة في المجتمع.

    وأما السبب في قلة الدراسات المتعلقة باللغة المحكية في سورية فيعود إلى الرأي الرسمي القائل بضرورة التركيز على دراسة اللغة العربية الفصحى لذلك ترى معظم الدراسات المتعلقة باللغة العربية تسير على هذا المنهج، وبالتالي نجد أنَّ الدراسات المتعلقة باللغة المحكية قليلة جدّاً.

  • بين الحين والآخر نسمع أصواتاً متخوفة من طغيان اللغات المحكية على اللغة العربية الفصحى، برأيك هل هناك من داع لهذا التخوف؟
  • ** في الواقع كان وما يزال هناك العديد من المحاولات الاستعمارية لاستبدال العامية بالفصحى، ودعوات عديدة لكتابة العربية بأحرف لاتينية. لكن من وجهة نظري أرى أنه ليس هناك من داع ٍ لهذا التخوف فاللغة العربية الفصحى والمحكية توءمان ولا يمكن لأحدهما أن يطغى على الآخر، فما دام هناك علم وأدب يُدرّس في المدارس والجامعات السورية والعربية ستستمر اللغة العربية الفصحى في الوجود.

    وينهي الدكتورجميل حديثه بالقول: «إنَّ سورية كانت رائدة منذ عشرينيات القرن الماضي في مجال المحافظة على لغتنا العربية الفصحى وذلك من خلال جعلها لغة التدريس في المجالات العلمية وخاصة الطب بينما يتم تدريس هذه المادة ومواد علمية أخرى في الجامعات العربية الأخرى إمـّا باللغة الإنكليزية أو بالفرنسية».

    الجدير ذكره أن الدكتور "جميل ضاهر" من مواليد قرية "فاحل" /1958م/

    تخرّج في جامعة "دمشق" قسم اللغة الإنكليزية سنة /1983/، وفي العام1986م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أكمل دراسة الماجستير والدكتوراه بعلم اللسانيات من جامعة "نيويورك". مارس العمل الأكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة /22/عاماً، من سنة /1987-2008م/ في جامعة "نيويورك" وجامعة "كولومبيا" وجامعات أخرى، وبعد عودته إلى سورية درَّس مادة اللغة الانكليزية في جامعة "الحواش" الخاصة للصيدلة والتجميل للعام الدراسي /2008-2009م/، ويدرِّس حالياً مادة اللسانيات ومواد أخرى في المعهد العالي للغات في جامعة "البعث"- مدينة "حمص".

    وتعتبر دراسته عن اللغة المحكية الدمشقية أول دراسة من نوعها عن اللغة المحكية في سورية والرسالة مطبوعة بشكل كتاب وموجودة في مكتبة الأسد في دمشق وعنوان الرسالة بالانكلزية Linguistic Variation in Damascus Arabic: A Quantitative Analysis of Men’s and Women’s Speech وله العديد من الدراسات المنشورة التي تخصّ علم اللغة الاجتماعي منها "دراسة عن اللهجات العربية، دراسة عن الوضع الحالي للغة العربية، استخدام اللغة العامية في الرسائل الشخصية، الاستعارة المفرداتية بين اللغة العربية والإنكليزية".