لحداثة فنه في التشكيل السوري حضورها الواضح متجلياً بعمقها وتميزها على الصعيد المحلي والعربي، محققاً بذلك جدل التلقي الرهيف وصولاً إلى إشغال الأسئلة ومشاكساتها الفنية.

ولد الفنان في عائلة "السباعي" المعروفة هنا بدورها الثقافي والسياسي في الحياة الحمصية عام 1939 في منطقة "باب السباع"، وبدأ حياته الفنية في الخمسينيات بتشجيع من الأستاذين "صبحي شعيب" و"عبد الظاهر مراد"، ومنهما تعرف الفنان إلى مدارس الفن الحديث، وكان معرضه الأول عام 1954 مع مجموعة من الفنانين منهم: "غياث الأخرس"، و"فيصل عجمي"، و"ممتاز جوخدار"، وأغلب لوحات هذه المرحلة كانت مناظر من بيئة "حمص" والقرى القريبة منها.

ساهم في تطوير فهم خاص عن اللوحة والتشخيص معيداً أطروحات الحداثة الغربية في الفن إلى أصولها في التشخيص السوري؛ مكرّساً أعماله كمفاهيم متنوّعة الدلالة على مستوى الصورة والذاكرة الشعبية

في حديث لمدونة وطن "eSyria" مع الفنان السوري "أديب مخزوم" صديق الراحل ومؤلف كتاب "تيارات الحداثة في التشكيل السوري"، بتاريخ 29 آذار 2015، يقول عن الفنان "غسان السباعي": «بدأ كمجمل الفنانين بصياغة واقعية دقيقة، ثم ما لبث أن تحول بعد مرحلة دراسته الأكاديمية نحو إيقاع تكويني وتلويني حديث يميل نحو المزيد من الإحساس المتتابع بركائز التكوين الهندسي المتماسك والضاغط على الأشكال الإنسانية، حيث تبدو وكأنها معلبة، حتى إنه أطلق على إحدى لوحاته عنوان التعليب، كل ذلك في خطوات تدعيم ركائز الموضوعات السياسية والاجتماعية التي كانت تظهر في لوحاته وما زالت تطل كتداعيات مشبعة بالحزن والتوتر واليأس والقتامة».

غسان السباعي مع أديب مخزوم

بعد الثانوية سافر إلى "مصر" ليلتحق بكلية الفنون الجميلة قسم التصوير، ومن أساتذته في تلك المرحلة: "سيف وانلي"، و"حامد ندا"، و"حامد عويس"؛ الذين أثروا في تجربة الفنان تأثيراً جوهرياً في توجهه العام المحتضن لاهتمامات الإنسان؛ وهو الخط الذي استقر عليه الفنان لاحقاً، تحدث الفنان "السباعي" عن تأثير تلك المرحلة في حياته، فقال في حوار سابق معه مع الفنان "مخزوم"، حيث قال: «سفري من "حمص" إلى "الإسكندرية" نقلني إلى مجتمع فيه تفاعلات اجتماعية كبيرة، كما جعلني أعايش فنانين متمرسين وكان عندي مفاهيم مغلوطة صححت وتطورت حول مضمون الفن، حيث بدأت مرحلة التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية ونقل تلك المضامين إلى لغة تشكيلية بعيداً عن الدلالات الأدبية».

تخرج في الكلية حائزاً على المركز الأول على دفعته، الأمر الذي أهّله بعد عودته إلى "سورية"، وتنفيذه عدة أعمال ومنها جداريات لمصلحة مؤسسات عامة وخاصة، لمنحة إلى "فرنسا" لمتابعة الدراسة في "البوزار" (المدرسة الوطنية العليا للفنون) عام 1974، حيث تعرّف هناك عالم الفن الغربي بواقعه الحقيقي وتجاربه وخاصة تجارب ما بعد الحداثة، ذكر الفنان عن تلك المرحلة أنه استفاد من المعارض التي كان يشاهدها هناك إلى حد بعيد، ويقول: «لأول مرة شاهدت لوحات أصلية لكبار فناني الغرب (القدامى والمحدثين) وحصل تغيير عزز اللغة التشكيلية في عملي الفني، رغم اتجاهي نحو التعبير المباشر عن الأحداث الجسيمة التي كانت تشهدها الساحة العربية، هكذا أصبحت لوحاتي أكثر بعداً عن اللغة التقريرية المباشرة، وبدت تجربتي متفاوتة الاتجاهات، حيث ظهر فيها نوع من القلق أمام التيارات المبهرة لتأكيد الخصوصية، وبرز تساؤل عن ماهية الفن؛ بمعنى أنني كنت أبحث عن فن ملتزم بعيد عن التوجه السياسي، فالفن الذي كنت ولا أزال أبحث عنه يمثل الديمومة البعيدة عن التقريرية المباشرة، وشيئاً فشيئاً بدأت أشعر بنوع من الاستقرار الداخلي عبر مجموعة الاختبارات والتجارب التي مررت بها».

لوحة "موت سمكة"

عاد إلى "سورية" أستاذاً في قسم الحفر بكلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق"، ولم يقم بأي معرض داخلي أو خارجي، وإطلالاته اقتصرت على المشاركات الدائمة في المعارض الجماعية الرسمية والخاصة، يقول الفنان "نزيه بدور" عن تجربة "السباعي": «ساهم في تطوير فهم خاص عن اللوحة والتشخيص معيداً أطروحات الحداثة الغربية في الفن إلى أصولها في التشخيص السوري؛ مكرّساً أعماله كمفاهيم متنوّعة الدلالة على مستوى الصورة والذاكرة الشعبية».

اشتهرت في تجربة الراحل عدة رموز أخرجها من سياقها المتداول لتصبح من سماته المعروفة التي لا بد أن تجدها في كل لوحة من لوحاته، على أن هذه التجربة الفنية بقيت مرتبطة بتجربته الحياتية فلم تجعله ينصاع لصدمة الحداثة؛ كما يقول الكاتب "سامر محمد إسماعيل" في مقال له عن الراحل في جريدة "السفير": "فهنا يحضر اللون وكذلك الخطوط الخاصة به، مثلما تحضر الجرأة التعبيرية، والإيقاع الروحي الداخلي لتجربة عصر وجيل بأكمله".

من أعماله الحديثة

استمر الفنان بالعمل محملاً لوحته في سنوات الأزمة مزيداً من الحب، يقول في حديث له مع وكالة "سانا": «لم أغير من أسلوب عملي أثناء الأزمة، ولكن لوحتي صارت تحمل أكثر الحب للحياة وتقدم جرعات من الحب والحميمية الإنسانية في وجه الموت والعنف والقتل والكراهية؛ كرد طبيعي من قبل الفنان الداعي للسلام والجمال والحب».

الفنانة "علا سليمان" من طلاب "السباعي" تقول: «تميزت علاقة الفنان الراحل مع الناس عامة ومع أصدقائه بكثير من الاحترام والتقدير والأبوية التي عرف بها الفنان، وكمدرس لمادة الحفر في كلية الفنون الجميلة كان جل اهتمامه أن يتعامل بطريقة متكاملة مع طلابه، الهاجس الأول كان أن يصلوا إلى مرحلة بناء شخصيتهم المستقلة فنياً ومن دون التطبع بأية تجارب سابقة أو لاحقة، للمحافظة على نكهة إبداعهم الخاص».

رحل الفنان في 22 شباط 2015 إثر ذبحة قلبية مفاجئة، بعد أن أنجز عبر مسيرته مئات اللوحات التي لكل منها بصمة خاصة، اقتنتها وزارات ومتاحف ومؤسسات عبر العالم، ومنها ما هو حالياً في المتحف الوطني بـ"دمشق"، ومتحف "دمر" للفن الحديث، وفي عدد من السفارات السورية وضمن مقتنيات خاصة في "لبنان" و"الأردن" و"مصر"، ومن لوحاته الشهيرة لوحة "موت سمكة".