دخل عالم الآثار وهو فتى صغير، نظرته وفضوله وشغفه بالآثار جعلت البعثة الأثرية الفرنسية تشجعه على دخول هذا العالم المثير، ليصبح فيما بعد أحد أشهر علماء الآثار السوريين، حتى أطلق عليه لقب "شيخ الآثاريين السوريين" نظراً إلى خبرته ونشاطاته الكثيرة.

إنه الباحث الآثاري "نسيب صليبي" الذي عرف عنه إتقان فن التصوير التوثيقي للآثار، كما أجاد علم رفع الآثار بتقنية هندسية سبقت عصره، يوم استقالته من عمله في مديرية الآثار في عام 1984 وقف الأستاذ المرحوم "فهمي الدالاتي" ليتحدث عن "الصليبي" بالقول:

هو إنسان فاضل وصبور، عارف لواجباته الوظيفية، دؤوب على عمله، ومتمكن من مادته العلمية "الأركيولوجيا"، عرف آثار القطر معرفة تامة، وقضى أربعين عاماً منقباً ومرمماً ومحاضراً، حتى أصبح أستاذاً تفخر به المديرية العامة وتعتز بعلمه الواسع، فهو من علماء الآثار في هذا الجزء من العالم العربي الذي يفتقر إلى أمثاله ولا يمكن تعويضه إذا ترك العمل، وقد تقضي المديرية زمناً طويلاً حتى تعثر على خليفة له. إنه ركن من أركانها عايشها وهي في طور النشوء ومازال، يجب أن تحرص على بقائه بناءً معمارياً فيها طالما بقي قادراً على العمل والعطاء، ومهما كلف ذلك من كرم مادي ومعنوي

«هو إنسان فاضل وصبور، عارف لواجباته الوظيفية، دؤوب على عمله، ومتمكن من مادته العلمية "الأركيولوجيا"، عرف آثار القطر معرفة تامة، وقضى أربعين عاماً منقباً ومرمماً ومحاضراً، حتى أصبح أستاذاً تفخر به المديرية العامة وتعتز بعلمه الواسع، فهو من علماء الآثار في هذا الجزء من العالم العربي الذي يفتقر إلى أمثاله ولا يمكن تعويضه إذا ترك العمل، وقد تقضي المديرية زمناً طويلاً حتى تعثر على خليفة له.

"نسيب صليبي" أثناء التنقيب

إنه ركن من أركانها عايشها وهي في طور النشوء ومازال، يجب أن تحرص على بقائه بناءً معمارياً فيها طالما بقي قادراً على العمل والعطاء، ومهما كلف ذلك من كرم مادي ومعنوي».

مدونة وطن "eSyria" التقت الباحث التاريخي "محمد خالد حمودة" بتاريخ 5 كانون الأول 2013، فتحدث عنه بالقول: «ولد عالم الآثار "نسيب صليبي" عام 1923 في "باب الدريب" محافظة "حمص"، ودرس الابتدائية في إحدى مدارسها الأهلية، وفي الخامسة عشرة من عمره سافر إلى مدينة "تدمر" لزيارة إخوته الذين كانوا يعملون فيها مع البعثة الأثرية العاملة بمواقعها،

"نسيب صليبي" في إحدى ورشات العمل في عمريت

وهناك استهواه العمل الأثري الذي كان يقوم به العالم الفرنسي "شلومبرجيه" رئيس البعثة الأثرية الفرنسية التي كانت تنقب في قصر "الحير الغربي" الأموي، وصار يتردد على الموقع باستمرار ويبدي اهتماماً فطرياً في العمل القائم هناك ما دفع بالعالم "شلومبرجيه" إلى ضِمّه إلى بعثته العاملة في الموقع، وصار "نسيب" أحد أركانها المتميزين الذين اكتسبوا العلم التطبيقي مباشرة في حقل التنقيب عن الآثار.

وعند انتهاء العمل في الموقع المذكور ألحقه "شلومبرجيه" ببعثته للإسهام معه في ترميم زخارف قصر "الحير الغربي"، ومنذ ذلك الحين أتقن "نسيب صليبي" قواعد الرسم والترميم ومن قبله أعمال التنقيب والتوثيق الأثريين، وما كان ذلك ليتم لولا عشقه الفطري لهذا العمل وعلومه.

"نسيب صليبي" مع أحد المكتشفات الأثرية.

ومع بداية 1944 تم تعيينه في دائرة الآثار العامة وعمل في مديرية الحفريات حيث بدأت رحلته العملية والتطبيقية في المديرية التي امتدت ثلاثة وخمسين عاماً قضاها بحثاً وتنقيباً، متنقلاً من موقع إلى آخر دون توانٍ أو كللٍ أو ملل أو تأفف».

وتابع: «عمل "صليبي" في كافة مجالات العمل الأثري وعلى رأسها أعمال التنقيب والترميم الأثريين، وكانت البداية في أعمال تنقيبات قصر "الحير الغربي"، ومن ثم ترميم اللقى التي جلبت من الموقع إلى متحف "دمشق"، ومن بعض مشاركاته "العمل بترميمات الجامع الأموي في "دمشق" وساهم مع المهندس الفرنسي "ريمون دوري" في حفريات "الرقة".

وشارك في الكشف عن المقابر الرومانية في حفريات العال بـ"الجولان" السوري المحتل، وحفريات مسرح "جبلة" وحفرية قرية "الكفرة" في جبل العرب، وعمل في حفريات "تل الكزل وتل الخويرة وتل أم حوران والرصافة وعمريت"، وشارك في حفرية ساحة العباسيين بـ"دمشق" ومدافن "باب سريجة وباب سوق الحرير" التابع إلى معبد جوبيتر الدمشقي وسوق الصاغة والمدرسة الظاهرية في "دمشق"، كما عمل في ابن هانئ ورأس شمرا.

وكان أول المنقبين عن حصن مسلمة بن عبد الملك في محافظة "الرقة"، وكل أعماله هذه كانت خلال الفترة 1938-1993، كما كان للترميم الأثري حظ وافر في حياته وعمله أيضاً ومن بعض ذلك نذكر: ساهم في ترميم زخارف قصر "الحير الغربي" وحتى اكتمال ترميمه وبناء واجهته وشارك في ترميم معبد "عمريت" وفي الترميمات التي تمت في الشارع الرئيسي بـ"أفاميا".

وشارك في إعادة بناء الجناح الغربي والبناء الحديث في متحف "دمشق"، وكذلك كانت له الاستشارة في ترميمات خان "أسعد باشا" وترميم الزخارف المكتشفة في موقع "مسكنة" وترميم محاريب من تدمر، كما قام بوضع مخططات هندسية لكافة المواقع التي نقبها في القطر وبمنهجية علمية بحتة وأنجز مخططات لكل من: "الجامع الأموي، جامع التيروزي، جامع درويش باشا، جامع يلبغا، مسطبة سعد الدين، جامع الحنابلة، مسطبة سعد الدين".

إضافة إلى مئات المخططات المحفوظة لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف، وأشرف على تنفيذ مجسمات لمتحف "دمشق" وقصر "الحير الغربي"، وأعد دراسة لعدد من المجسمات منها مجسم لمدينة "الرافقة" ومواقع القصور قرب نهر "الفرات".

كما وكانت له مساهماته في بناء المتاحف وتعديل معروضاتها، فقد صمم خزائن الجناح الغربي للمتحف الوطني في "دمشق"، وصمم وعرض القطع الأثرية في متحف "طرطوس" وعرض الخزائن في أروقة متحف "تدمر"، ووضع الدراسة الأولية لمتحف "حمص"».

ويضيف الباحث "حمودة": «لم يقتصر نشاطه على البحث والتنقيب بل امتد إلى الكتابة والتأليف فقد كان له عشرون بحثاً مهماً في مجلة الحوليات الأثرية السورية، وكتاب بعنوان "دليل عمريت"، شارك في تأليف كتاب "دليل رأس ابن هانئ، عربي، فرنسي" وذلك بالاشتراك فيما بينه وبين الدكتور "عدنان البني وجاك لاغارس".

كما شارك "موريس دونان" بوضع كتاب "مدافن عمريت في البر المقابل لجزيرة أرواد"، والدكتور "عدنان البني" بكتاب آخر عن "أحجار معبد في تدمر"، وكتاب عن "قصر الحير الغربي" بالاشتراك مع "شلومبرغر وإيكوشار"، ناهيك عن قيامه بنفسه بوضع ثمان وعشرين دراسة أخرى بالفرنسية، أو بالمشاركة مع بعض علماء الآثار.

كما عمل السيد "نسيب صليبي" إضافة إلى عمله في مديرية الآثار أستاذاً محاضراً في الجامعة السورية كلية الآداب "قسم الآثار"، فأوكل إليه تدريس مادة الرسم المعماري الأثري فيما بين الأعوام 1971_1973، وعمل أستاذاً زائراً في جامعة "قار يونس" في مدينة "بنغازي" بنفس المادة فيما بين عامي 1976 - 1979، وانتدب للعمل في دائرة آثار الكويت عام 1980 في مشروع الحفاظ على سوق قديم وطريقة ترميمه.

كما قام بتدريس مادة الآثار المنقولة في المعهد المتوسط للآثار والمتاحف فيما بين الأعوام 1986 _ 1991 وتم إيفاده خمساً وعشرين مرة إلى مختلف عواصم العالم، وشارك أثناء عمله في ثمانية عشر مؤتمراً علمياً يتعلق بالآثار ومعطياتها حيث ألقى فيها مواضيع متخصصة تهم كافة الباحثين الآثاريين بنظرة علمية ثاقبة ما جعله مثار اهتمامهم.

تأثر بأساتذته: "دانييل شلومبرجيه، مارك لوبير، الأمير جعفر الحسني محافظ المتحف الوطني، المهندس ميشيل إيكوشار، الدكتور سليم عادل عبد الحق مدير الآثار والدكتور عدنان البني"».

يذكر أن "نسيب صليبي" عالم الآثار الذي اختزل العالم كله بعلمه وجهده وإخلاصه توفي بتاريخ 28 تشرين الثاني 1996 حيث نقل رفاته من مدينة "دمشق" إلى مدينة "حمص" ودفن في مقبرة حيِّه الذي أحب.

حضر مراسم جنازته حشد مهيب من العلماء ورجال الفكر والأدب والتاريخ مع أصدقائه ومحبيه والعاملين في حقل الآثار والمتاحف ذاك الوقت.