أحد أعلام الشعر والموسيقا الذين أنبتتهم مدينة "حمص" منذ حوالي قرنين من الزمان، لقب "بشمس الشعراء"، كما أن معظم ما يسمى القدود الحلبية الشائعة والتي تغنى اليوم هي من صنعه.

إنه الشيخ "أمين الجندي" المولود في "حمص" سنة 1766 والذي عاش في كنف والده فأحسنَ تربيته، ويخبرنا الباحث التاريخي المهندس "نهاد سمعان" عن نشأة هذه الشاعر الحمصي الكبير وحياته: «درس "أمين الجندي" على يد علماء عصره وأدباء زمانه مثل الشيخين "محمد الطيبي" و"يوسف الشمسي"، ثم انتقل إلى "دمشق" وأخذ عن علمائها وفي طليعتهم العلامة الصوفي المشهور الشيخ "عمر اليافي" والشيخ "أحمد العطار" و"عبد الرحمن الكزبري" و"محمد الغزي"، ثم عاد إلى "حمص" وكانت علائم النبوغ والذكاء الفطري والميل لنظم الشعر واضحة فيه إذ نظم الشعر وبرع فيه منذ صغره. ففي العام 1780 عاد إلى "حمص" وأخذ ينثر منظوماته من قدود وموشحات تأخذ الألباب، واتصل خبره "بآل الكيلاني" في "حماة" فاستقدموه إليهم حيث امتدحهم بقصائد رنـّانة محفوظة في ديوانه المنشور في "بيروت" عام 1891».

في العام 1840 اشتد عليه المرض وضعفت مقاومته فتوفي ودفن في مدفن آل الجندي في المقبرة التي كانت قرب جامع "خالد بن الوليد" إلى أن أزيل قبره مع باقي القبور التي أمر بإزالتها "مصطفى رام حمداني" محافظ "حمص" عام 1960 بحجة توسيع الطريق وإنشاء الحديقة أمام الجامع

ويضيف المهندس "سمعان": «للمرحوم "الجندي" من الشعر ما لم يحصَ حتى الآن، فما نظمه في "حلب" لا يعرفه أهل "حمص" والعكس صحيح، ومن المؤكد أن المحفوظ في صدور الناس أكثر بكثير مما هو مدون في ديوانه اليتيم، ومما لا يعرفه كثيرون أنَّ الشيخ "أمين" هو الناظم لأغلب القدود التي مازلنا نطرب عندما نسمعها بصوت عمالقة الطرب الأصيل مثل:

ديوان "أمين الجندي" المنشور في "بيروت" عام 1891

هيمـــــتني تيمــــتني

إحدى اللوحات التي صورت الشيخ "أمين الجندي"

عـن سـواها أشغلتني

أخت شمس ذات أنس

لا بكــأسٍ أســكرتني

وكان قد عدلها الشيخ "أمين" عن أصل كان متداولاً بين العامة في "حلب" الذين كانوا يرددون:

جوجحتني.. مرجحتني.. دوختني.. دللتني... !!! فحلت كلماته الرائعة محل ما كانت تتناقله ألسنة المطربين آنذاك وبقي هذا التعديل حياً إلى اليوم».

اهتم الشيخ "أمين" منذ البدايات في شؤون أمته وبلدته العامة ولاحظ الأخطاء وحاول إصلاحها، ومن بين ما نجحت محاولاته وجهوده وأثمرت في إصلاح شأن دواوين الدولة ومكاتبها إذ لاحظ أن أمور الحج ودفاتر محاسبة المالية بيد اليهود وكانوا يكتبون الداخل والخارج أي الواردات والمصروف باللغة العبرية، فبعث برسالة إلى السلطان محمود في الباب العالي ضمّنها قصيدة، لما وصلت هذه الرسالة للخليفة التركي أمر بالتحقيق في الأمر وإقصاء اليهود عن أعمال الدولة والدواوين وترجم الدفاتر من العبرية إلى العربية.

وعن إحدى الحوادث التي حصلت مع الجندي وقلبت موقفه السياسي من الأتراك أخبرنا الأستاذ "نهاد سمعان" أنه: «مما يروَى في مسيرة حياة الشيخ "أمين" أنه في العام 1830 وفي فترة حكم السلطان التركي "محمود"، أي قبيل دخول إبراهيم باشا المصري إلى سورية بقليل، وشى به أحد النمامين إلى حاكم حمص فادعى أنه هجاه في شعره، فاستدعاه الحاكم ففر الشيخ "أمين" إلى "حماة" ولكن الحاكم الغاضب أرسل خلفه من أدركه قرب "تلبيسة" فألقوا القبض عليه وزجوه في السجن ومنعوا عنه الطعام إلا مما يبقيه حياً. لكن القدر تدخل في الأمر بعد ثلاثة أيام بواسطة "سليم باكير الدندشي" الذي أغار على حمص على رأس مئتي فارس من عشيرته وفتكَ بحاكمها وقتله لثأر سابق له عنده فأخرج الشيخ "أمين" من السجن في اليوم الرابع لسجنه وفرح به الناس واحتفلوا بنجاته وسلامته.

ولقد كان لهذه الحادثة أكبر أثر في حياة الشيخ أمين فقد انقلب موقفه السياسي والوطني حتى أصبح من أكبر الدعاة لرحيل الأتراك والتخلص من حكمهم الجائر».

وعن علاقة الشيخ "أمين" الوطيدة بالفاتح "ابراهيم باشا" المصري حدثنا المهندس "سمعان": «لما انهزمت الجيوش التركية أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا كان الشيخ "أمين" من أكبر المرحّبين بالفاتح الجديد، وأطلق قصائد المديح بالقائد المصري المنتصر وأرَّخ لهزيمة الأتراك واندحارهم

ولما سمع إبراهيم باشا المصري بأقوال ومنظومات الشيخ "أمين" وعلم بموقفه وعلمه ومحبة الناس له، استدعاه إليه وقرّبه منه وجعله من خاصته ومستشاريه فتوطدت عرا الصداقة بينهما، وكان يرافقه في كل رحلاته وحملاته، وقد حضر معه كل المعارك الحربية وكان "إبراهيم باشا" يستبشر خيراً بقربه ولا يردُّ له رجاء.

ولما سافر الفاتح الشاب إلى مصر لمقابلة والده والتدارس معه في شؤون البلاد المفتوحة بسيفه، اصطحب معه الشيخ "أمين". ولما مثل أمام والده "محمد علي باشا" قال "إبراهيم" لأبيه لقد أتيتك بأعز هدية من البلاد الشامية وقدّم إليه الشيخ أمين، فلقي الشيخ "أمين" بالغ الحفاوة والإكرام في البلاط المصري، حيث توافد أكابر القوم وفطاحل الشعر والأدب للسلام والتعرف عليه فذاعت شهرته وعمّت الأقطار. ولما كان "محمد علي باشا" يبني في ذلك الزمان جامع القلعة في "القاهرة" طلب "ابراهيم باشا" من شيخنا أمين نظم التاريخ الشعري كما كانت العادة في تلك الأيام لينقش على باب المسجد فقال:

عروس كنوز قد تحلت بعسجد

مكللــــة تيجـــانها بالزبـــرجــــد

أم الجنة العليا ترفرف قاعـــها

بأبهــج ياقـــوتٍ وأبـــهى زمـرد».

وتابع: «ومما يذكر أن الشيخ "أمين" كان برفقة الفاتح إبراهيم باشا عندما مر "بحمص" عائداً من عند صديقه الأمير "بشير الشهابي" في لبنان، فاحتفل به أهل "حمص" أعظم احتفال ما عبّر بشكل واضح عن محبتهم وإجلالهم للعلامة "أمين الجندي".

في العام 1834 مرض الشيخ "أمين" مرضاً شديداً أعقبه شلل نصفي، وبعد عدة أعوام وعندما صدقت الاتفاقيات التي أبرمت برعاية وضغوط الدول الأوروبية بين المصريين والأتراك والقاضية بانسحاب الجيش المصري من جميع سورية وعندما حان موعد الانسحاب طلب "إبراهيم باشا" من شيخنا "أمين" الذهاب معه إلى مصر كالكثيرين ممن تعاونوا معه من علماء سورية، لكن الشيخ أمين رفض الذهاب وبقي متمسكاً بالبقاء في مسقط رأسه وخصوصاً أنه كان يرزح تحت وطأة المرض الذي ألمَّ به فأقطعه "ابراهيم باشا" عدة قرى ما زالت وثائق امتلاكها محفوظة في حوزة أبناء "آل الجندي" وهي ممهورة بتوقيع "إبراهيم باشا" الذي كان يوقع بتعبير "سلام من إبراهيم".

وبعد انسحاب الجيش المصري من سورية ولما كان الشيخ أمين الداعية الأكبر للمصريين ضد الأتراك أرسل الخليفة التركي أي السلطان محمود أحد وزرائه الأشداء للقبض على الشيخ أمين، ولما بلغ الشيخ أمين أن الموفد نزل عند نقيب الأشراف من آل الكيلاني في حماة الذين تربطه معهم رابطة المحبة والصداقة ركب من حمص قاصداً الوزير في حماة دون خوف من عواقب الأمور، وتجاوز مخاوف آل الكيلاني ودخل محضر الوزير قائلاً: "أنا أمين الجندي الذي جئتم للقبض عليه" فأعجب الوزير من جرأته ومحيّاه الوقور فتواصل معه وتم التعارف بينهما ثم سافرا معاً في اليوم التالي إلى دمشق مروراً بحمص فاطمأن أهل حمص على الشيخ أمين بانه في أمان وسلام. وبعد التدقيق والتحقيق أرسل الوزير إلى اسطنبول رسالة تفيد ببراءة الشيخ أمين مما نسب إليه فصدرت البراءة السنِيّة بحقه».

وعن وفاته ذكر م."سمعان" أنه: «في العام 1840 اشتد عليه المرض وضعفت مقاومته فتوفي ودفن في مدفن آل الجندي في المقبرة التي كانت قرب جامع "خالد بن الوليد" إلى أن أزيل قبره مع باقي القبور التي أمر بإزالتها "مصطفى رام حمداني" محافظ "حمص" عام 1960 بحجة توسيع الطريق وإنشاء الحديقة أمام الجامع».

وعن الاتجاه الشعري للشيخ "الجندي" ووضعه للأعاريض الشعرية ذكر الباحث "محمد راتب الحلاق" أمين سر فرع اتحاد الكتاب العرب "بحمص" في إحدى مقالاته التي نشرها بجريدة العروبة عن الشيخ "أمين الجندي" بتاريخ 11/5/2008: «نجد في ديوانه قصائد تنم عن حس وطني وقومي مبكر، كما نجد في ديوانه قصائد في مدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تطاول قصائد "البوصيري" و"ابن الفارض"، ومن هذه القصائد قصيدته المعروفة "بالتوسلية"، وهي التي يذكر الشيخ العلامة "محمود جنيد"- رحمه الله- أنه أنشدها بقلب مؤمن خاشع في إحدى الليالي، فرأى النبي في منامه وهو يبشره بالشفاء والعافية، ولما أصبح وجد نفسه وقد شفي من الفالج الذي كان يعاني منه والذي أقعده في الفراش مدة من حياته».

وأضاف "الحلاق": «ومما اشتهر به الشيخ "أمين الجندي الحمصي" وضعه لكثير من الأعاريض، وهي التي عرفت فيما بعد بالقدود، وما زالت أعاريضه وقدوده سائرة بين الناس بعد أن غناها مشاهير المطربين. وللعلم فإن القدود عبارة عن أغانٍ صنعت على عروض وقدّ "قياس" أغنيات شائعة ومشهورة الألحان، وكثير من القدود التي مازال المطربون يغنونها من صنع الشيخ "أمين الجندي"، ويرى الباحث "أحمد بوبس" أن معظم ما يسمى القدود الحلبية الشائعة هي من صنع الشيخ "أمين الجندي الحمصي"، ومن القدود التي صنعها الشيخ أمين الجندي قد يا غزالي: يا غزالي كيف عني أبعدوكْ؟ شتتوا شملي وهجري عوّدوكْ».

من جهته وصفه الأديب "ميخائيل بطرس معماري" في كتابه "الشيخ أمين الجندي" بأنه: «بلبل صداح تزهو به حمص وأدباؤها وهو الذي أطرب سورية ومصر بأناشيده وأشعاره الرقيقة، وبعد دراسة شعر الشيخ "الجندي" توصلنا إلى أنه: شاعر رقيق سيال القريحة مشغوف بالجمال واضح اللفظ يتجنب حشو الكلام وهو إلى ذلك يجيد الأناشيد والأدوار التي تغنى وهي ميزة له تفوق بها على سائر شعراء عصره لشغفه بفن الغناء».