دفعته قذيفة طائرة إلى الكتابة، فرغم أن شظايا الحرب أقعدته وهو في الثانية والعشرين من عمره، لكنه لم يستسلم لليأس، واختار من كتابة السيناريو شكلاً من أشكال التواصل مع العالم الخارجي، مؤكداً بذلك أن حياة الإنسان تستمد قيمتها من عمق المواجهة والعطاء. إنه الكاتب المرحوم "نبيل الغربي"، مؤلف مسلسلي (الطير والقيد) التلفزيونيين، ومؤلف العديد من المسلسلات والسهرات التلفزيونية الأخرى.

عن سيرة حياته وتجربته مع الكتابة، حدثتنا أخته السيدة "تمام الغربي" قائلة: «ولد "نبيل" في (16 تموز من عام/1952/)، ومثل أبناء جيله عايش ظروف ومراحل هامة ومتقلبة، كان والده مساعداً في الجيش وأسرته الكبيرة العدد مؤلفة من (12) فرداً، مما هيأ له التباين في الأعمار بينه وبين إخوته جوّاً من اختلاف الآراء والأفكار والتجربة. درس في مدارس مدينة "حمص"، وكان مولعاً بالتصوير الفوتوغرافي والمسرح وكانت له تجارب في المسرح المدرسي في مجال الكتابة والتمثيل».

أعتقد أن قيمة الإنسان تتحدد بقوّة مواجهته للصعاب، وبقدرته على العطاء والتواصل الصحيح مع المجتمع، وقد اخترت الكتابة وسيلة لذلك، وأحاول أن أثبت من خلالها أن العقل السليم ليس في الجسم السليم وحسب

وعن إصابته في الحرب، التي سببت له شللاً نصفياً أقعده على الكرسي المتحرك بقية حياته تحدثت السيدة "تمام": «بعد حصوله على الثانوية العامة التحق بخدمة العلم الإلزامية، وشارك في حرب تشرين التحريرية، حيث كان قائداً لجماعة في الجيش، وفي اليوم السابع للحرب، تلقى أمراً بتفريق بعض العناصر المجتمعة وإخبارهم بتوقع هجوم معاكس، فانتقل مباشرة إلى موقع التجمعات وقام بتفريق العناصر، عدا ثلاثة بقوا في المكان، فكان واحداً منهم، وفي هذه اللحظة أغار طيران العدو عليهم، فسقطت قذيفة بقربه، استشهد رفيقه حينها، وأصيب هو بشلل نصفي».

الكاتب "نبيل الغربي"

وتابعت تقول: «بعد الإصابة بدأت مرحلة الصراع الحقيقية في أعماق المرحوم "نبيل"، من خلال فترة من العلاج استمرت مدة سنتين تنقّل خلالها بين مشافي "دمشق" و"بيروت" و"طهران"، فكان في البداية ثائر الأعصاب بشكل دائم، لكن بوقوفنا جميعاً إلى جانبه بكل محبة، نحن عائلته، أخذ يقتنع باستقرار وضعه على ما هو عليه، وحاول التكيّف معه، وأثبت يوماً بعد يوم أنه إنسان طبيعي قادر على الحياة والعطاء مثله مثل الآخرين، فأعاد تقديم الثانوية العامة والتحق بكلية الحقوق في جامعة "دمشق"، لكن وضع الجامعة آنذاك كان صعباً بالنسبة لإنسان مُقعد، فترك الجامعة ولجأ إلى التثقيف الذاتي وقرأ في كل المواضيع العلمية والإنسانية، لكنّ الرواية كانت أقرب أنواع الإبداع الأدبي إلى قلبه، وكان متأثراً بـ"ميشيل زيفاغو" و"جرجي زيدان" مما أكسبه الأفق الواسع والقدرة على المحاكمة والإبداع في السيناريو والحوار».

وعن بداياته بالكتابة تحدثت السيدة "الغربي": «في البداية حاول "نبيل" كتابة الرواية، وأنجز جزءاً كبيراً من رواية (نبض الحياة والحب)، والتي فيها تجسيد لتجربته الذاتية في الانتقال من حياة لأخرى وعلاقة المجتمع بمصاب الحرب، وبالصدفة زاره صديقه المخرج "سمير غريبة" وأقنعه بتحويل المادة الروائية إلى سيناريو تلفزيوني، وكونه كان يكتب للمسرح في السابق، فكان سهلاً عليه الانتقال إلى عالم التلفزيون فاستهوته التجربة وواصل العمل في هذا المجال».

المرحوم "الغربي" قبل إصابته

لقد أثمرت محاولات الراحل "نبيل الغربي" في كتابة السيناريو التي بدأت عام/1990/ عن نحو عشرة أعمال بين سهرة وثلاثية ومسلسل، ومن هذه النصوص التي أنجزها نذكر (المقلع، الجدة، المراسل، النصيب، السور، الحفيدة، القيد) وهذا النص الأخير تم تصويره كمسلسل تلفزيوني أخرجه الأستاذ المخضرم " غسان جبري"، وكان من أبطاله الفنان "عبد الرحمن آل رشي"، و"فراس ابراهيم"، وقد لاقى هذا المسلسل نجاحاً عربياً واسعاً، حيث عالج فيه "الغربي" مشكلة الالتزامات الاجتماعية والأسرية التي تصل أحياناً إلى حدود الإحساس بالعبودية والأسر.

ونجاحه في هذا المسلسل دفع المخرج "جبري" إلى تكرار التجربة مع الكاتب "نبيل الغربي" وأخرج له مسلسل "الطير"، من أبطاله نذكر (عبدالرحمن آل رشي، رفيق سبيعى، سلمى المصرى، وفاء موصللى، كاريس بشار، باسم ياخور)، وقد لاقى أيضى هذا المسلسل نجاحاً أكبر من الذي سبقه، وتم عرضه في عشرات الفضائيات والمحطات التلفزيونية العربية، لكن للأسف دون أن تسنح الفرصة لكاتبه بمشاهدته بشكل كامل، لأنه توفي قبل أن ينتهي عرض المسلسل على التلفزيون السوري. وقد وصف المخرج "غسان جبري" المرحوم "الغربي" في إحدى اللقاءات الصحفية أنه: «كاتب متميز يتمتع بشفافية وصدق في الطرح».

بروشور عن مسلسل "القيد" للكاتب "الغربي"

وكما أخبرتنا أخته، فقد كانت العوالم الداخلية للكاتب "نبيل الغربي" هي حياته، فكان بإمكانه أن يبقى في بيته عاماً كاملاً دون أن يكون فيه، يسافر إلى كل الدنيا بأحلامه، كان يهرب من ضعفه الجسدي لأنه يكره الضعف فرغم وضعه قاد سيارة وسافر للسياحة، حتى أنه سبح وذهب للصيد، ولم تعيقه إصابته عن ممارسة حياته بشكل عادي، إلا أن خيالاته كانت أقوى بكثير مما يستطيع أن يفعله، وأحلامه كانت النافذة التي أطل من خلالها إلى العالم.

في لقاء معه حول تجربته، أجرته مجلة "فنون" السورية الصادرة عن الإذاعة والتلفزيون (العدد 243) قال المرحوم "الغربي": «أعتقد أن قيمة الإنسان تتحدد بقوّة مواجهته للصعاب، وبقدرته على العطاء والتواصل الصحيح مع المجتمع، وقد اخترت الكتابة وسيلة لذلك، وأحاول أن أثبت من خلالها أن العقل السليم ليس في الجسم السليم وحسب».

كان أيضاً من نصوص الكاتب التي تم تصويرها وعرضها على التلفزيون بعد وفاته، ثلاثية كوميدية بعنوان "النصيب"، ومسلسل تلفزيوني بعنوان (المقلع). كما كان قبل أن يفارق الحياة، قد بدأ بكتابة مسلسل تدور أحداثه في أحد الأحياء الشعبية في مدينة "حمص"، بعنوان (باب السباع). كانت حياته مليئة بالشجاعة والتحدي للصعاب، توفي قبل أن يستمتع المشاهد العربي بالكثير من إبداعاته التي ترك من خلالها بصمة هامة في الدراما على الرغم من قلتها.

في عام/1999/، وبعد صراع مع المرض، رحل الكاتب "نبيل الغربي" الذي عاش مرتين قبل أن يتم الخمسين.

جدير بالذكر أنه يمكن تحميل ومتابعة مسلسل "الطير" للكاتب "نبيل الغربي" على أكثر من منتدى على شبكة الإنترنت نذكر منها : موقع منتدى (برامج نت) على الرابط:

http://www.bramjnet.com/vb3/showthread.php?t=829254

وكذلك على موقع (منتديات جنون الإبداع) على الرابط

http://www.esoft.201mb.com/vb/showthread.php?t=3670