على طريق "الحرير" بين الشرق والغرب، وعندما نصل إلى "تدمر"، نشاهد بين السور "الدفاعي"، وسور "الجمارك"، ما يشبه المنطقة الحرة اليوم، فيها تم اكتشافُ أهمِّ قانون تجاري في العالم حتى الآن، يطلق عليه "التعرفة الجمركية التدمرية Palmyrian Customs Tariff".

عند هذه البقعة، كانت القوافل تجتمع لتجري عمليات المبادلة التجارية بين المتاجر والتجار من مختلف بقاع العالم، حيث تنقل البضائع من الشرق والجنوب إلى بقية العالم، حتى أصبحت "تدمر" تستحق لقبها الذي سميت به "سيدة تجارة القوافل" لقرون عديدة، وكرست أقدم منطقة حرة للتجارة العالمية.

الصوف المصبوغ بالأرجوان، كل جزّة مستوردة، أو مصدّرة، تدفع 8 آسات

في عام 1881 قام الأمير الروسي "لازاريف" بزيارة إلى "تدمر"، وكشف أمام ملحق الساحة العامة (الآغورا) عن أطول نصٍ من النصوص المكتوبة بالتدمرية الآرامية، وأكثرها أهميةً بالنسبة لمختلف الوثائق التي اكتشفت في العالم الروماني، و"سورية" منه، فيما يتعلق بالأمور التجارية، والنظامُ الضريبيُ المتبع وقتها، إذ حكم الرومان "سورية" ما يقارب ألف عام، ولكن مع إعطائها الاستقلالية الإدارية في أغلب هذه المدة.

نماذج من العملات التدمرية

يتحدث لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 26 نيسان 2014، عن هذا النص، مدرس مادة التاريخ في ثانويات "بانياس" الأستاذ "عدنان سليمان"، فيقول: «يعرف هذا النص لدى اختصاصي التدمريات باسم "التعرفة الجمركية"، وهو قانون صادر عن مجلس الشيوخ والشعب على لوحة طولها خمسة أمتار، وارتفاعها متر وخمسة وسبعون سنتيمتراً؛ ومكتوب بالتدمرية الآرامية واليونانية، وقد نقل هذا الحجر الكبير إلى "روسيا" عام 1901 إلى متحف الأرميتاج في "لينينغراد (بطرسبورغ)"، بعد أن تم تقطيعه بالمنشار إلى عدة أجزاء؛ وبموافقة السلطان العثماني آنذاك، و"لازاريف"، مكتشف الحجر، هو المسؤول عن نشر هذا القانون بمساعدة الباحث الروسي أيضاً "لاتشيف"».

عكف على قراءة الحجر، كما يذكر الباحث الراحل الدكتور "عدنان البني"، وهو أحد أهم الذين اشتغلوا في التنقيب الأثري في "تدمر"، في كتابه "تدمر والتدمريون"، "أفضل قارئي الخطوط القديمة، وعملوا على تذليل صعوبات القراءة التي نتجت عن سوء حالة الحجر والتشويه في النص، وأحياناً من كون الوثيقة فريدة من نوعها، فهي عبارة عن قانون مالي يحدد كل الرسوم التي تجبى داخل مدينة "تدمر"؛ أو في إقليمها لمصلحة الصندوق البلدي، وهناك وثيقتان مماثلتان يعرفهما المختصون، ولكنهما لا ترقيا إلى أهمية وثيقة "تدمر"، لا من حيث الأهمية ولا من حيث الحجم، الأولى لاتينية وجدت في "نوميديا" (الجزائر)، والثانية يونانية فقط في "مصر" من عام 90 ميلادي".

ساحة الآغورا في تدمر

هذه الكتابة، كما يقول الباحث "م.دوفوغوي"، "تدخلنا إلى الحياة الخاصة للمدينة التجارية، وتوقفنا على الحركة الكبرى للناس والحيوانات والبضائع، والمنافسة بين السماسرة والجباة وباعة الرخص وأصحاب المشكلات والموظفين، وذلك الجمهور الصاخب الذي يتدافع تحت الأروقة، كما يوقفنا على الجهار الإداري من مجلس الشيوخ إلى أمين سره إلى الشيخين المكلفين بالسلطة الإجرائية؛ ومجلس العشرة، ووكلاء السلطة القضائية".

النص مكون من أكثر من أربعمئة سطر، موزعة على أربعة حقول، والنص منقوش على لوحة أمام معبد رب آسيري (رب الأسرى)، حيث قرر مجلس الشيوخ في "تدمر" أن ينقش مواد القانون المالي الجديد مع السابق.

من الكتابات اليونانية في تدمر أيضاً

في الحقل الأول كُتب مرسوم مجلس الشيوخ بالتدمرية واليونانية، ويبدأ هكذا (الترجمة للدكتور "البني"): «قرار مجلس الشيوخ، في الثامن عشر من نيسان عام 448 سلوقي (18 نيسان 137م): برئاسة "بونّابان بن حيران"، وأمانة سر: "ألكسندر بن ألكسندر بن فيلوتور" أمين مجلس الشيوخ والشعب، وولاية الأراخنة: "مالك بن علي بونا "مقيم"، و"زبيد بين نسّا"، مجلس الشيوخ المجتمع في جلسة عادية، قرر ما هو مرقوم أدناه: لما كانت سلع عديدة في الأزمنة السابقة خاضعة للرسوم غير مسجلة في القانون المالي وتجبى الرسوم عليها وفقاً للعرف والعادة..... ولما كان ذلك سبباً لكثير من النزاعات بين الباعة والجباة.... قرر مجلس الشيوخ.... أن يقوم بإحصاء كل ما هو غير مذكور في القانون المالي وأن يُسجّل في العقد الجديد، وأن يوضع أمام كل سلعة الرسم الذي يجبى عنها عادة، فإذا أقر العقد من قبل متعهد الجباة ينقش مع القانون القديم على اللوحة القائمة أمام معبد رب أسيري....».

في الثاني يذكر القانون المالي لـ"مستودع تدمر" ومنابع مياهها، وهو يشكل التعرفة المالية الجديدة فيما يتعلق بالعبيد والمواد الجافة والأرجوان، والزيوت المطيبة وزيت الزيتون والسمن والمحلات والرواحل، وحق التمتع على العطارين وبنات الهوى وأصحاب الحوانيت، والرسوم على الجلود والألبسة، والمياه والمحاصيل، واستخدام مياه النبعين ("أفقا" وآبار "العمي"، و"أبو الفوارس" ربما)، والثالث يتضمن النظام المالي القديم الصادر عام 68 أو 69م، لتدمر ومياهها وملحها، أما القسم الأخير فهو منشور قديم يتعلق بحل الإشكالات عند تطبيق القانون (ص240 من كتاب البني).

وما يهم هو الحقل الثاني، المتضمن القانون المالي الجديد، ويذكر الباحث "ستارسكي"، أنه لا يذكر جميع مستوردات "تدمر" وما تتاجر به، فقد كانت "جزيرة العرب" تورد لتدمر البخور واللآلئ ثم الحجارة الكريمة، ومن "الساحل السوري" كانت تصل الآنية الزجاجية والأرجوان والفضة والذهب، ومن "دمشق" كانت تصل الخمور الجيدة الواسعة الانتشار في الولائم الدينية، أما التوابل والأصبغة والحرير فمصدرها "كشمير والهملايا وتركستان الصينية" (Starcky، Palmyra.p.80).

من أنواع السلع المذكورة في الحقل الثاني الأرجوان، والضرائب عليها كالتالي: «الصوف المصبوغ بالأرجوان، كل جزّة مستوردة، أو مصدّرة، تدفع 8 آسات»، والآس من مشتقات الدينار، كذلك زيت الزيتون، حيث: «كل حمل زيت في أربعة ضروب من جلد الماعز منقول على جمل، عند الدخول 13 ديناراً، وعند الخروج 13 ديناراً، وكل حمل زيت على حمار في ضربين من جلد الماعز عند الدخول 7 دينار، وعند الخروج 7 دينار».

ويلاحظ أن رسم الاستيراد على الزيت هو نفسه المفروض على العطور والطيوب العادية، ولكن رسم التصدير هو نصف رسم الاستيراد، ما يعني تقدم تسهيلات للتصدير لكون البلاد منتجة للزيت.

من الجدير بالذكر، أن هذا القانون صدر في عهد الإمبراطور الروماني "هادريان"، الذي سميت "تدمر" باسمه وقتها، فعنون القانون بخط عريض: "القانون المالي لهدريانا تدمر"، وقد كتب في الحقل الثاني للحجر.

المصادر:

[1] ـ تدمر والتدمريين، د. عدنان البني، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1978.

[2] ـ مجلة الحوليات الأثرية السورية، العدد 42، عدد خاص بوقائع الندوة الدولية حول تدمر وطريق الحرير، ص323، الباحث "محمد بهجت القبيسي".