ولدت "تدمر" قبل "روما" بخمسة آلاف عام على الأقل، وتحولت إلى مركز حضاري في قلب الشرق العربي، فقدمت الكثير الكثير من أفكار تنظيم المجتمع، ومنها نظام "بطاقات" الدخول إلى أماكن الترفيه العامة.

لم يمر على "تدمر" وقت طويل حتى أصبحت حاضرة حضارية تزدهي بشوارعها ومعابدها وأبنيتها، فهي محطة للقوافل التجارية المتجهة إلى الجنوب والشرق العربيين والساحل الفينيقي؛ ما قدم لها رخاءً بشرياً وازدهاراً معمارياً ومجتمعياً جعلها من أعاجيب الدنيا، الأمر الذي انعكس على أنماط الترفيه في هذه المدينة الصحراوية الكبيرة، يتحدث لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 18 نيسان 2014 الباحث السوري "بشار خليف" (مؤلف عدة كتب ودراسات عن مملكتي ماري وإيبلا)، فيقول: «لدخول الإنسان العادي إلى أي منشأة ذات طابع ترفيهي، مثل المسارح أو حلبات المصارعة، أو حتى حضور جنازات الشخصيات العامة، كان يتم استخدام نظام "التأشيرة"، التي تشبه في أيامنا هذه "بطاقات الدخول" إلى منشآت مشابهة بأشكالها المختلفة، وكلمة التأشيرة (Tessera) باللاتينية تعني التذكرة المصنوعة من الفخار المشوي أو البرونز، ولا يعرف من اقتبسها من الآخر التدمريون أم الرومان، لأنها كانت أيضاً مستخدمة من قبل الرومان في "روما" خصوصاً، ولكن التدمريين كانوا يستخدمونها كتذاكر لحضور "المرزح"، بما يتضمنه من مسرحيات طقوسية وغير طقوسية، وجنازات وأفراح وأي نوع من الحفلات الخاصة».

القبعة التي يرتديها الرجل تشير إلى أنه من أعضاء مجلس الشيوخ التدمري، وليس كاهناً كما يقول بعض علماء الآثار الغربيين، لأن الكاهن في "تدمر" كان يرتدي قبعة لباد مخروطية بيضاء، على التأشيرة مكتوب عبارة: "لمعن عبداس"، من الواضح إن اسم الرجل "معن"، وكنيته "عبداس" التي تنتهي بحرف "السامخ" إشارة إلى التصريف اليوناني أو الروماني للاسم

صنعت التأشيرة أو بطاقة الدخول من أنواع مواد مختلفة، في الورشات الخاصة بتصنيع النقود المعدنية، أو في أفران الشوي الفخارية الكثيرة، وكانت تستخدم لمختلف الأغراض كما هو الحال في زماننا نحن، فالدخول إلى أية "مؤسسة" بالتعبير المعاصر يستلزم هذا النوع من البطاقات، حتى الدخول إلى بيوت الدعارة ونقل البضائع عبر الأنهار في القوارب، وبعضها كان يستخدم كعطاء من قبل الملوك والوزراء للفقراء لمقايضته بالطعام، وفقاً لما ذكره كتاب "Romain Tessera".

شكل للتأشيرة

وتعود ظاهرة استخدام هذه "التأشيرات" إلى فترات غير معروفة تماماً، ولكن تاريخها في "تدمر" كما تدل اللقى الأثرية يعود إلى العهد الروماني، منذ وصلها "الإسكندر الكبير" حوالي 30 عاماً قبل الميلاد، وأعطاها استقلالها، حيث بدأ سطوع نجم "تدمر"، كما تذكر (دائرة المعارف البريطانية).

وقد عثر على كمية كبيرة من هذه التأشيرات في معبد "بل" في تدمر (الصورة)، يقول الباحث "خليف"، بعض هذه التأشيرات تصور الإله "بل" يحمل بيده غصناً أو غصنين من أوراق الشجر، وتعطيه صورة الإله المسيح الذي يمسح بالزيت، كما تصور تأشيرة أخرى، أرسلها كهنة "بل"، شجرة جذعها كثير العقد، وأوراقها ملأى بالحبات، وهي ليست سوى حبات زيتون، ولا بد أن هذه التأشيرة كانت ترسل لاحتفالات لها علاقة بالزيتون.

نموذج لها

كما عثر أيضاً على هذه التأشيرات في مختلف المناطق الحضارية السورية، ومن نماذجها التدمرية تأشيرة خاصة لحضور حفل جنازة شخص تدمري يبدو أنه كان من الشخصيات المهمة، (كما نرى في الصورة التي عليها سهم بالأحمر)، يقول الباحث "خليف" موضحاً: «القبعة التي يرتديها الرجل تشير إلى أنه من أعضاء مجلس الشيوخ التدمري، وليس كاهناً كما يقول بعض علماء الآثار الغربيين، لأن الكاهن في "تدمر" كان يرتدي قبعة لباد مخروطية بيضاء، على التأشيرة مكتوب عبارة: "لمعن عبداس"، من الواضح إن اسم الرجل "معن"، وكنيته "عبداس" التي تنتهي بحرف "السامخ" إشارة إلى التصريف اليوناني أو الروماني للاسم».

تعددت مواضيع وأشكال البطاقات، فمنها كما يذكر كتاب "تدمر والتدمريون" للدكتور "عدنان البني"، أن هناك طقساً خاصاً في "تدمر" يسمى "الوليمة" لا يدخله إلا الكهنة الكبار وعلية القوم، والدخول إلى هذه الوليمة يتم ببطاقات صغيرة من الفخار، وقلما تكون من المعدن أو الزجاج، وعليها صورة الرب أو رمزه واسم مقدم الوليمة ورموز شتى، وتحمل البطاقة في بعض الأحيان كمية الطعام والشراب المخصص لكل ضيف.

شكل مربع للتأشيرة

هذا النظام الدقيق للتعامل بين الناس استمر حضارياً حتى دخول الإسلام إلى الشرق العربي وتوقف هذه النشاطات الاجتماعية الترفيهية.

المصادر:

1- تدمر والتدمريون – د. عدنان البني ـ وزارة الثقافة السورية، ص 102، طبعة أولى، 1995.

2- Roman Tessera، Oxford press، Lausanne, le 1er juin 2007.