أصعب ما قد تقوم به، أن تعيد حياكة مطرزات جميلة؛ فجمالها الأصلي، سيجعلك تظن أن إمكانية زيادته ولو بغرزة واحدة أمراً مستحيلاً، فكيف إن كنت تفرد قماش موسيقا وفن لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير في إبداء رأي غير مبالغ بإيجابيته تجاهه.

هذا ما يفعله العوّاد "جمال" بكل جرأة، وجمال في فعالية "كرم اللولو"؛ إحدى فعاليات مشروع "مدى" الثقافي، التي يقوم خلالها بتحليل -كما يحب أن يسمي ما يقوم به رافضاً مصطلح تشريح- الفن "الرحباني"، وبعض أعمال مؤلفين آخرين وعلى رأسهم الموسيقار "طاهر مامللي".

أنا أتعامل مع مادة تمثل عنواناً للحياة، وأقوم بإعطائها لوناً آخر مختلفاً من وجهة نظري، وهي وجهة نظر لاقت استساغة جيدة عند المتلقين كما لاحظت من كمّ ونوعية الحضور في كل المحاضرات التي قمت بها في هذا المجال، سواء في "حمص" أو "دمشق"، ويمكن القول إن ما أقوم به هو قراءة نقدية تحليلية لمدرسة موسيقية تعدّ من أهم المدارس الموسيقية العربية الحديثة

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 16 نيسان 2018، التقت الباحث "جمال سامي عواد"، فأوضح بداية: «أنا أتعامل مع مادة تمثل عنواناً للحياة، وأقوم بإعطائها لوناً آخر مختلفاً من وجهة نظري، وهي وجهة نظر لاقت استساغة جيدة عند المتلقين كما لاحظت من كمّ ونوعية الحضور في كل المحاضرات التي قمت بها في هذا المجال، سواء في "حمص" أو "دمشق"، ويمكن القول إن ما أقوم به هو قراءة نقدية تحليلية لمدرسة موسيقية تعدّ من أهم المدارس الموسيقية العربية الحديثة».

خلال إحدى فعاليات "كرم اللولو"

وعن الفكرة كاملة، يقول: «الموضوع لم يخطر في بالي فجأة، ولم يبدأ مع بداية نشاطات مشروع "مدى" عبر فعالية "كرم اللولو"، بل بدأ منذ سنوات الشباب الأولى، حيث تأثرت جداً بما كان يقوم به الدكتور "سعد الله آغا القلعة" في لفت نظر الناس إلى فهم جديد للموسيقا، وأشعل في قلبي وروحي وعقلي الشرارة الأولى لحريق الاستماع إلى الموسيقا بطريقة جديدة، ومن الطبيعي أن تأخذ هذه التجربة خصوصية معينة وتتطور باتجاهات أملتها ظروفي وذوقي الشخصي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفن الرحباني و"فيروز" منذ أن تفتحت حاسة السمع لدي في فجر الطفولة.

غير أن الظهور الأول لهذا النوع من النقد الموسيقي، كان عبر نشر المقالات على المواقع الإلكترونية وصفحاتي الشخصية على مواقع التواصل، قبل أن يتحول إلى محاضرات حية أقوم بإلقائها على الجمهور مباشرة، تكون معززة بالأمثلة السمعية المأخوذة من المادة موضوع التحليل».

الصحفي والناقد "بديع صنيج"

أما عن سبب التركيز على الفن "الرحباني"، وأعمال "طاهر مامللي"، فقال: «أركّز على الفن "الرحباني"، لأن هذا الفن كان جزءاً مهماً من البيئة التي تفتحت فيها براعم ذائقتي السمعية؛ إذ إن ترديد مقاطع أغاني "فيروز" التي سمعتها من أمي، أو من الراديو آنذاك، كانت المظهر الأول لتطور اللغة لدي كطفل صغير؛ وهذا ما دفعني الآن إلى التركيز على ناحية الغناء في معرض ممارستي لعملي في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة الموسيقا.

يضاف إلى ذلك، أن المدرسة "الرحبانية" في الموسيقا، تعدّ من أهم المدارس الموسيقية العربية الحديثة، لما تتسم به من نضج وحداثة وشمول ودقة في التعبير الحقيقي عن ثقافة شعب هذه المنطقة من العالم، كما أنها مثّلت رافداً كبيراً لنهر الثقافة الإنسانية، حمل هويتنا وحضارتنا وتمسكنا بخيار تلاقي وتكامل الحضارات وتنوعها، لا صدامها.

أما فيما يخص الفنان "طاهر مامللي"، فقد كان الفنان الأول ضمن مجموعة من الفنانين الذين وقع عليهم الاختيار في أن يكونوا موضوع فعالية "بقعة ضوء"، نظراً لنشاطهم الفني المتميز والجديد والجدير بالنقد؛ لما للنقد من أثر مهم وأساسي في العملية الإبداعية، وهو ما أكده الفنان "طاهر مامللي" نفسه في معرض تعليقه على نشاطي في هذا الشأن».

وعن عدد الأعمال التي قام بتحليلها وأقربها إليه، قال "عواد": «الأعمال التي قمت بالكتابة عنها حتى الآن كثيرة، لكنها لم تنشر كلها، ولم تكن موضوع محاضرة حتى الآن، وذلك لأنني أقوم دائماً بمراجعة تلك الأعمال وتعديلها دائماً على خلفية تطور أدواتي الشخصية، سواء من حيث طريقة التقديم، أو من حيث المعرفة والعلم الموسيقي، أو تراكم الخبرة. وقد لعب موضوع الأغاني دوراً في اختيارها، حتى تكون متسلسلة ومترابطة ومنسجمة مع الهدف من هذا العمل برمته.

لكن عموماً قمت بتحليل ما يقارب عشر أغنيات لـ"فيروز"، وأغنية للفنانة "أنغام" "شنطة سفر"، وبصراحة أجد صعوبة في تحديد الأقرب إليّ، غير أنني فوجئت بردة فعل ردة الجمهور على تحليل أغنية "من روابينا القمر"، فقد كانت المحاضرة الأنجح على الإطلاق، على الرغم من تخوفي منها تحديداً، لكونها أغنية أقل انتشاراً من سابقاتها، ولأنها تنتمي موسيقياً وشعرياً إلى لون خاص جداً، كما أنني أفتخر وأعتز شخصياً بقراءتي لأغنية "حبو بعضن"، وربطها ربطاً وثيقاً بفلسفة "الأخوين رحباني" في الحياة عموماً، وفي الحب خصوصاً، وربطها بأغانِ أخرى تممت هذه النظرة المتميزة لديهما، وخصوصاً في موضوع الحب الإنساني».

لا بد من غاية لهذا العمل الجميل والجديد، سؤال أفرح "عواد" وقال إنه لا يود التوقف عن الإجابة عنه، نظراً لشمول وأهمية الجواب، ولأنه ينطبق على كثير من النواحي المهمة في حياتنا، وقال: «لا بد لي من الإشارة أولاً إلى الغاية الأساسية لهذا العمل، وهي غاية أشترك بها مع كل إنسان يقوم بعمل فني أو أدبي، ألا وهي

غاية التعبير عن الذات، والقول: (هذا أنا وهذا ما لدي، وهذه قراءتي للعالم الذي أعيش فيه)، وهذه غاية تصب في عمق التواصل الإنساني المثمر، الذي يخلق معنى للحياة لنا، ويسبب لنا السعادة الشخصية.

ثانياً: توخيت من هذا العمل تحقيق ذات الأثر الذي حققه لي الدكتور "سعد الله آغا القلعة" عندما كان يقوم بشيء مشابه، فقد أطلعني على مستوى آخر من الجمال، مستوى خفي وثرّ وهائل الاتساع، حقق لي الكثير من الفائدة والمتعة العقلية والروحية، وهو بالتحديد ما أحببت إعادة إنتاجه وإعطائه للآخرين.

ويبقى الهدف الأهم، تقديم مساهمتي في محاربة القبح كما أراه من موقعي، فالقبح كالظلام والبرودة، يكفيهما انحسار الضوء لتعود الأشياء إلى العماء والبرودة البدائيين، وبطبيعة الحال، فإن محاربة القبح تعني تمجيد الجمال وإعلاء شأنه، وإلباسه ثياباً وألواناً وحضوراً، وتقديمه لمتذوقيه، والجمال شفاف، خفي، ولا يشي بمكان وجوده وحده، بل علينا نحن البحث عنه، وهذا منطقي ومنسجم مع نواميس الطبيعة، فالبحث عن الجمال هو عملية بناء وتدفئة وتنوير للحياة الإنسانية؛ لذلك يحتاج إلى جهد وعمل بعكس الهدم، ويكفي أن نتوقف عن العمل ليعم الخواء البارد المظلم».

الصحفي والناقد الفني "بديع صنيج" كان له رأيه بـ"جمال" وما يقدمه، فقال: «أقل ما يمكن أن يُقال عن التحليل الذي يقدمه الموسيقي "جمال سامي عواد" ضمن سلسلة "كرم اللولو" بأنه فريد، حيث تتحول الألحان إلى "حدوتة" جميلة، والأشعار التي ترتكز عليها، إلى نغمات من نوع خاص.

في تحليلات "عواد" تعمُّق معرفي يتم من خلاله الانتقال من الموسيقا ومقاماتها، إلى مقامات نقدية لا تكتفي بخصوصية الطرح، بل ترسم صُوَراً شعرية وتسعى إلى "تقويل" الموسيقا أقوالاً جديدة، وإلباسها استعارات مُغايرة قد لا تخطر في بال أحد.

ثمة تغريد خارج السرب في إسباغ معاني جديدة لموسيقا "الرحابنة"، يقوم به هذا الموسيقي السوري، حيث يجعلنا ننتبه إلى جماليات محجوبة عنّا، ليس على الصعيد الموسيقي فقط، وإنما الشعري في كثير من الأحيان، وبرز ذلك جلياً في تحليله لأغنية "في روابينا القمر"، حيث بانت لنا الكثير من خبايا "سعيد عقل" الشعرية وجماليات "الرحابنة" الموسيقية، وفرادة أداء الصوت الفيروزي، وكأن كلامه يأتي كهزّة لوعينا الموسيقي، فيجعلنا نُحلِّق مع سرب الكمنجات، أو نتشارك هبوب العواصف مع الكورال، أو نخبو مع نزول المُدرَّج الموسيقي، أو نُعيد صياغة انتباهنا مع الإيقاع، ونشتَمّ عبق الجُمَل الموسيقية عندما تهز مشاعرنا، فنصبح بين النقد التحليلي والشواهد الموسيقية، ضمن حالة من الانسحار الذي يدوم طويلاً بعد انتهاء المحاضرة، فتكرار المقاطع الغنائية والدهشة مما توصلت إليه تحليلاته تجعل مدى ما يقوله بعيداً في النَّفس كأغنية موازية».

يذكر أن الفنان "جمال سامي عواد" من مواليد "حمص" عام 1965.