لم تأتِ موهبة الدكتور "جودت إبراهيم" ونجاحه من العدم، فالتزام الإنسان بعمله وإدراكه أهمية التحفيز لكل من حوله يخلق طاقة إبداعية، تجلت في كمّ كبير من الإصدارات الأدبية المهمة، وخلق حالة توثيقية مهمة لأبناء بلده وكل من يجد في نفسه الموهبة.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع الأديب "جودت إبراهيم" دكتور الأدب العربي في جامعة البعث، حيث قال: «للإنسان في بيت قراره خصوصية معينة تجمع بين القراءة والثقافة والعلم والإرداة، وفي داخله مجموعة من الحكايات المضيئة التي تتفاوت بين الموهبة والإبداع ثم الإغناء، حيث تمر الموهبة بمحورين أساسيين: الأول فطري أو خلقي، وهو هبة من الله تولد مع الإنسان، وقد تغنيها البيئة فتخدمها أو تخفيها. والثاني يتم عبر إغناء هذه التجربة بالصقل والتربية والتدريب والكمّ المعرفي الوافر والتراكمي، فالموهبة بلا صقل ومساعدة وتمرين تموت، وبمقدار ما يتاح لها من تعزيز تلمع وتظهر وتنضج، فالعظماء الذين مروا عبر التاريخ لو ولدوا ضمن بيئات لم تصقل مواهبهم لما كنا لنعرف أسماءهم اليوم».

وكان ناتج هذا التعزيز أن كتبت أول قصيدة لي في عمر الثانية عشرة، في الوقت الذي كان فيه أقراني يفضلون اللعب على السطوح وتسلق الأشجار ورمي "الكلة"، ولم أترك صحيفة أو قصة أو مجلة خصوصاً "طبيبك" إلا وقرأتها، وكانت لدي رغبة قوية باستعارة الكتب، ونتيجة قراءتي المستمرة تحسنت لغتي وبرعت في الخطابة، وكنت أقول وأحفظ وألقي القصائد، ولاقى هذا استحسان واهتمام المدرّسين في معظم المراحل الدراسية

ون بداياته، قال: «كان لروايات جدي من ناحية الأب تأثيرٌ كبيرٌ في توجيه دفتي الإبداعية، وتنمية شخصيتي وتوسيع مداركي العقلية، فقد كان مثقفاً من الطراز الأول، وكان من الأوائل الذين انتبهوا إلى أهمية العلم حين أسّس مدرسة عام 1912. ونظراً إلى قدرتي العالية على التصور الخيالي، فقد كنت أغوص في قصصه المسائية المختلفة عن القصص المتداولة كـ"الزير وعنترة وسيرة بني هلال"، وإنما غَرف جدي من الأدب العالمي، وخصوصاً الروسي لتنغرس في ذاكرتي آلاف الصور الجميلة، ومجموعة من القيم ذات المستوى الرفيع، فوضعه الخاص كقارئ متميز ورجل علم وفكر وأدب كان مختلفاً في قرية "بحور" المعلقة على سفح الجبل، والتابعة لناحية "شين"، حيث لم يتجاوز عدد المتعلمين حينئذٍ أصابع اليدين، فلا قراءة ولا كتابة في مجتمع القرية الصغير إلا للقليلين في بدايات القرن، وقد اعتاد أن ينقل إلى مستمعيه مع كل قصة مجموعة من القيم».

روائع الغزل

وأضاف: «وكان ناتج هذا التعزيز أن كتبت أول قصيدة لي في عمر الثانية عشرة، في الوقت الذي كان فيه أقراني يفضلون اللعب على السطوح وتسلق الأشجار ورمي "الكلة"، ولم أترك صحيفة أو قصة أو مجلة خصوصاً "طبيبك" إلا وقرأتها، وكانت لدي رغبة قوية باستعارة الكتب، ونتيجة قراءتي المستمرة تحسنت لغتي وبرعت في الخطابة، وكنت أقول وأحفظ وألقي القصائد، ولاقى هذا استحسان واهتمام المدرّسين في معظم المراحل الدراسية».

وعن اختياره للأدب العربي كطريق دائم، أضاف: «كان لاستقلالي عن أهلي في المرحلة الإعدادية لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر في فصل الشتاء نتيجة صعوبة المواصلات إلى القرية دور كبير في نضجي المبكر، وتنمية شخصيتي، لأصبح مسؤولاً عن نفسي وعلاقاتي وتصرفاتي، إضافة إلى اهتمامي بشؤوني الخاصة، ثم التحقت بالجامعة بعد نجاحي في المرحلة الثانوية، وكان يجب أن التحق بكلية الحقوق، لكن رغبتي القوية بدخول مجال الأدب جعلتني أتوجه إلى الأدب العربي، فتخرجت بسرعة وقبلت في الدراسات العليا، وتابعت تعليمي للحصول على شهادة الدكتوراة من جامعة "تبليسي" الحكومية في جمهورية "جورجيا"، وعند عودتي عينت عضواً في الهيئة التدريسية، وبدأت مرحلة العطاء والتدريس».

محطات في الثقافة العربية المعاصرة

أما عن عمله في مجال التوثيق في "وادي النضارى"، فقال: «قامت "الجمعية العامة للتنمية" بدراسة واقع المنطقة من كافة الوجوه، وقد كان لي شرف متابعة أكثر من خمسة عشر شاعراً زجلياً مغموراً، فساهمت بنشر اثنين وثلاثين كتاباً لهم، لإدراكي أن الزجل هو هوية المنطقة وذاكرتها الشعرية، ويعكس في خباياه الواقع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي، وحجم ووعي المجتمع في التعامل مع الفكر الإبداعي. ولم يقتصر عملي على جهود الجمعية العامة للتنمية، بل ساهمت في المنتدى الإبداعي الذي أقيم في "حمص" بالتعاون مع اتحاد شبيبة الثورة، وقد كان موجهاً للشباب الموهوبين والراغبين بنشر أعمالهم ومساهماتهم وإيصالها إلى الجمهور، وقد كان لعملي في الجامعة دور كبير في اكتشاف بعض المواهب المخبأة التي تبنيتها أيضاً وساعدتها في النشر، وقد حاز بعضهم جوائز أدبية في "سورية"».

الدكتور "رودان مرعي" اختصاص أدب عربي، نقد حديث، حدثنا عن الدكتور "جودت" ومعرفته به وبعمله بالقول: «لا يسعني القول عنه سوى أنه ابن الأدب، فهو رجل علم وأكاديمي، وله العديد من المنشورات والدراسات والبحوث، وقد تعرفت إليه منذ بداية الألفية الجديدة، ورأيت فيه رجلاً كامل الإنسانية، يتعامل مع الأدب كحرفة فنية تحتاج إلى الصقل والتشذيب والاهتمام، ويسعى إلى وضع المواهب الشابة المغمورة على طريق النشر، لإدراكه أن المادة المكتوبة تعكس وعي المجتمع. ويتميز عن أقرانه باختياره لغة المتابعة والتأكيد، حيث يُدرك المتعامل معه بأنه يقف على أرض صلبة ولا يحتاج إلا إلى نصيحته، حيث يكفي القليل من المحاورة لتدرك حجم التميز والدقة التي يتعامل بها، وهو دوماً يعطي النصائح بعين الثقة مع الكثير من التدقيق والمتابعة حتى الوصول إلى التميز».

أثناء مناقشة إحدى رسائل الدكتوراة

الجدير بالذكر، أن الدكتور "جودت إبراهيم" من مواليد قرية "بحور"، عام 1955، عضو هيئة تحرير "الموقف الأدبي" التي تصدر عن "اتحاد الكتاب العرب"، وعضو هيئة تحرير مجلة "باسل الأسد للعلوم الإنسانية"، وهو حالياً عضو هيئة تحرير مجلة "الآداب العالمية" التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، ورئيس تحرير مجلة "جامعة البعث" للعلوم الإنسانية، كما نشر ما يزيد على أربعة وثلاثين كتاباً بين تأليف منفرد ومشاركة ومراجعة، وعدد كبير من الدراسات والمقالات.