تحتاج إلى محطات ومراحل عديدة حتّى تُجهّز وجبة طعام عمرها بعمر الجزيرة السورية، ومكونات متعددة من القمح واللبن والسمن العربي، وعنصرها الأبرز أداة "الهنجان".

مدوّنة وطن "eSyria" وبتاريخ 13 تشرين الأوّل 2015، توقفت عند أداة من أدوات الماضي البعيد لمنطقة الجزيرة السورية؛ "الهنجان" للتعرف إلى طقوسها وأهميتها، وعديد اللوحات الاجتماعيّة التي كانت تحضر بحضورها، وتمزج أكثر من نوع من خيرات المنطقة، وتصدّت للحديث أولاً السيّدة "سوسن خلف المحمّد"، وافتتحت كلامها بالتالي: «اللبن عنصر مهم من خيرات الريف، ومنه تُنجز أكلات خاصة بالمنطقة، و"الهنجان" كانت خاصة باللبن الناشف فقط، وقد كانت يدا الرجل والمرأة الصورة الأجمل في معانقة تلك الأداة، فتعطي بذلك جمالاً اجتماعياً وأسرياً ولوحة رائعة عن التعاون والمحبة، وتساعد المرأة الرجل في تأدية المهمة، والعملية تحتاج إلى عمليات أخرى لإنجاز وجبة دسمة، ولأن الوجبة التي تحضر كانت خاصة بزمن خاص، ومواعيد غير ثابتة، فإنها كانت سبباً لاجتماع الأحبة والأصدقاء، خاصة أن تلك الأداة لم تكن متوّفرة إلا في منزل واحد ضمن القرية، وأحياناً كثيرة كانت تتشارك أكثر من أسرة في إنجاز الوجبة المشهورة من المواد التي ذُكرت، وكانت بحق لوحة تجمع القلوب والنفوس على طاولة واحدة، والكثيرون منهم كانوا يستمتعون برؤية العمل؛ خاصة أنها تتطلب أكثر من مرحلة وأكثر من يد، وبوجه دائم امرأة أو فتاة تنثر أغنية شعبية أو تراثية على مسامع الحضور ومتزامنة مع تنفيذ مهمة العمل أو إحضار الوجبة، وأكثر من مرّة كان الجميع يشكلون حلقة بجانب الأشخاص الذين يمارسون العمل، وتبقى تلك اللحظات التي نختزنها في الذاكرة حتّى يومنا هذا».

هناك أسر تحول تلك العادة الاجتماعية إلى احتفالية رسمية، بالتصفيق والغناء والرقص، وذلك من خلال الاحتفال بها تزامناً مع احتفالية الأسرة بحدث معيّن، فيحضر الأصدقاء والأهل والمدعوون، وتكون "الحنطية" وما ترافقها من مواد وأدوات إلى لوحة اجتماعية في غاية الأهمية والجمال

تلك الطقوس والعادات باتت لوحة من تراث الماضي، ومن ذكريات أهل تلك الحقبة؛ هذا ما بيّنه السيّد "أندراوس شابو" الذي يحتفظ في معرضه بـ"الهنجان"، وذكر جوانب تتعلق بتلك اللوحة الاجتماعية، وذلك من خلال التالي: «تلك الطقوس وتلك العادة قديمة جداً وتتجاوز مئات السنين، وهي موجودة ضمن الكتب التاريخية بأنها كانت خاصة لتقديم وجبات الطعام للملوك والأمراء في الماضي البعيد، وقد كانت مهمة النساء واضحة وكبيرة، وأثبتن أنفسهن بكل تقدير في هذا الجانب الاجتماعي الأسري بدرجة كبيرة، ومع مشاركة الرجل، ولأنّ الريف هو أساس ومنبت الخيرات والتراث والعراقة، فقد انطلق ذلك الطقس الاجتماعي، وفرضت تلك الأكلة نفسها في الريف بالدرجة الأولى، وانتقلت العادة وتم الحفاظ على وجودها على مدار السنوات العديدة التي انقضت، بل وإلى تاريخه ننجز الوجبة اللذيذة بين الحين والآخر، فنقوم بوضع كميّة من القمح المقشور ضمن فوهة "التنور" أو الفرن منذ المساء وحتّى ساعات الفجر الأولى، حيث لا يكون "التنور" أو الفرن مشتعلاً إنما تحتفظ بالحرارة المتبقية من لهيب نيرانها، وعند الصباح تكون لدينا كميّة من اللبن الناشف ونقوم بمسحه على أرضية "الهنجان" ولمدة 60 دقيقة، وبعد سكب المياه عليه نحصل على اللبن الخاص بالشرب، وبعد تلك المرحلة نسكب عليه حبات القمح بعد إخراجها من الفرن، إضافة إلى مزجها بكمية من السمن العربي، وهناك من يرش على تلك الأصناف حبيبات من الفليفلة الحمراء، وتصبح أمامنا أكلة تسمى "الحنطيّة" وتنجز لمرات قليلة خلال العام الواحد، ومن أجلها أحتفظ بـ"الهنجان" ضمن معرضي التراثي المنزلي، وكلما جُهّزت الأكلة أدعو الأصدقاء والمحبين».

الهنجان في معرض تراثي

ويضيف "أندراوس": «هناك أسر تحول تلك العادة الاجتماعية إلى احتفالية رسمية، بالتصفيق والغناء والرقص، وذلك من خلال الاحتفال بها تزامناً مع احتفالية الأسرة بحدث معيّن، فيحضر الأصدقاء والأهل والمدعوون، وتكون "الحنطية" وما ترافقها من مواد وأدوات إلى لوحة اجتماعية في غاية الأهمية والجمال».

السيد أندراوس شابو