في غرفة لا يتعدَّى طولها المترين تقع في أكناف مدينة "رأس العين"، يقضي ساعاتٍ طويلة عاكفاً على صنع الآلات الموسيقية، جامعاً بين حسٍّ موسيقي مرهف، وإنسانية رائعة، ومهارة حرفية مشهود لها، يمزج بين عشق قديم للموسيقا يضاهي عمر بلدته "عامودا" حيث خُلِق، وبين جمال الإحساس الذي أكسبته إياه مدينة "رأس العين"، ليأخذ من هذه تارةً، وتارةً من تلك، فيصنع آلات تنبض بالحياة، ويساهم في عالم ملؤه الموسيقا والحياة، ذاع صيته بين هواة الآلات الموسيقية لما أضافه لعالم حرفته.

موقع eHasakeh التقى السيد "سليمان أبو أياز" 50 عاماً، في منزله الذي اتخذ من غرفةٍ بسيطة ضمنه مكاناً ليمارس حرفته، حيث بادرنا بالحديث عن بداياته قائلاً: «لقد رأيت النور في قرية بسيطة من قرى "عامودا"، وقد ولد عشق الموسيقا معي، فإني لا اذكر متى وكيف بدأت بحب الموسيقا، ولكن ما أذكره، أنه عندما أصبح عمري بحدود 8 سنوات بدأت بخطواتي الأولى على طريق الحرفة، التي أخذ عشقها يتجذر في أعماقي يوما بعد يوم، في تلك الفترة كنت أستمع إلى "المذياع" مع أبي عندما سمعت صوت الفنان المرحوم "آرام تيكران" مع آلته الوترية التي تسمى "الجمبش"، ومنذ ذلك اليوم صممت أن أتعلم العزف على تلك الآلة التي سحرتني، وقد لاحظ والدي حبّي الكبير، وتعلّقي الشديد بالموسيقا حينها، فأراد ذات مرة أن يشتري لي آلة "بزق" لكنه لم يستطع "بسبب ليرتين" فقد أراد فيها صاحبها "10" ليرات، بينما لم يكن أبي يملك سوى "8" ليرات، لم أيئس من كوننا لا نملك ثمن الآلة، حيث بدأت بصنع آلاتٍ موسيقية بنفسي من بقايا ومخلَّفات مواد قديمة، فمن علبة سمن فارغة، وقطعة خشب قديمة، ووتر قمت بفكِّه من كابلات "كوابح" الدرَّاجات صنعت آلة "جمبش" بدائيّة لنفسي، إلا أنها لم ترضي طموحي آنذاك، فقمت بمحاولاتٍ عديدة لتطويرها، وتحسينها».

حدثنا عن مهارة "ابو اياز" قائلا: يذهلنا أبو اياز بهدوئه وتأنيه ومهارته في حرفته، وطريقة تعامله مع الخشب الذي لا يملك إلا أن يصبح طوع بنانه ليصنع منها لوحة رائعة في شكل آلة موسيقية

وفيما يتعلَّق بالصعوبات التي واجهها منذ البداية أضاف: «لقد كانت البداية صعبة جدّاً، ذلك أنه لم يكن هناك من يأخذ بيدي من جهة، وندرة المواد الضرورية من جهة أخرى، كذلك عدم وجود معاهد حرفية، وقلّة الذين يعملون بالحرفة واحتكارهم لها زاد الأمر صعوبةً، وكثيراً ما كنت أساوم على قطعة خشب قديمة ضرورية لصناعة آلاتي، مقابل خدمة أؤديها أو ساعات طويلة من عمل مضني، وقد جرت خلال الممارسة الأولى للحرفة مواقف طريفة شجعتني للاستمرار في عملي، منها أنني في إحدى المرّات كنت قد بدأت بصناعة آلة "بزق" لم اعثر على قطعة خشب مناسبة لأستعملها في آلتي، ولشدَّة تلهفي وفي أثناء غياب والدتي عن البيت قمت بأخذ قطعة خشب كانت قد جعلته سقفاً للغرفة التي تخبز فيها، غرفة "التنور"، استغربت أمي من اختفاء "الخشبة"، وبعد عملية بحث طويلة، اكتشفت بأنني أخذتها، فقالت: «آه.."يا سليمان" كنت اعرف انه لا يمكن لأحد أن يأخذها غيرك، لابد انك جعلت منها "طنبوره"».

الالات التي يصنعها

وعن طبيعة حرفته، والمواد التي يستعملها تحدّث "أبو أياز": «تحتاج الحرفة إلى هواية وحب عميق للموسيقى ولهذه الحرفة قبل كلّ شيء، ودراية بالعزف، ولو بشكل بسيط، بالإضافة إلى الصبر والتأني والدِّقة للتوصل في النهاية إلى المهارة الحرفية، فإن أي خطأ مهما كان صغيراً يترك أثراً كبيراً في صوت الآلة وأدائها، وهو أمرٌ يعرفه العازفون المهرة جيداً، حيث أقوم بانتقاء الخشب المناسب كخطوة أولى، وهي خطوة مهمة للغاية وتؤثّر في صوت الآلة وجودتها بدرجة كبيرة، ويأتي خشب شجرة "الجوز" في المرتبة الأولى، ثم "المشمش"، و"الزان"، والتكحيل ب"المكينوم".

ثم تأتي الخطوة الثانية، وهي تقطيع الخشب، وتصفيحه وحفّه، وتشذيبه ليناسب قالب "الكود" المُعدّ خصيصاً حسب مقاسات معتمدة في الحرفة، وحسب نوع الآلة الموسيقية، وبعد عدّة مراحل جزئية يتم تطبيق الألواح على قالب "الكود" في محاولة ثنيها وقولبتها، وتترك الألواح عدَّة أيام حتى تأخذ شكل "الكود" ثم أقوم بتطبيقها في عملية دقيقة قد تستغرق أياماً، وفي أثناء ذلك أقوم بصنع "الزند" وهو الجزء الذي تثبت مفاتيح الأوتار في أعلاه واجعله مناسباً ليطابق "الكود".

الطنبورة

أما الجزء الثالث الذي هو عبارة عن غطاء "الكود"، فهو إما أن يكون من "الفيبر" الشفاف أو من الخشب، وكل ذلك باستخدام أدوات ومعدات بسيطة، كالحفافة الكهربائية والرابوب، إضافة إلى أدوات يدوية أخرى، كما استعمل عدة مواد كيماوية "كالغراء" والسلر واللكر في النهاية كمادة عازلة، وأيضاً لإضفاء اللمعان والجاذبية على الآلة، وتستغرق العملية كلَّها حوالي عشرة أيام».

وبخصوص أنواع الآلات الموسيقية التي يصنعها، والجانب المادي من حرفته يقول: «إني أقوم بصنع كافة الآلات الوترية، الشرقية، والغربية، لكن الطلب على الآلات الغربية قليل عندنا، لذلك فإني اهتم بصناعة الآلات الشرقية أكثر، ومنها "البزق" العربي، و"الساز" الكردي، و"الباغلمة" التركي، و"العود"، و"النشأت كار" المأخوذ عن العود، و"الجمبش"، و"المندولين" حيث يختلف الجهد والمهارة التي تتطلبها كل آلة عن الأخرى، فمثلاً صناعة "الجمبش" تستغرق جهدا ووقتاً أكثر مما يحتاجه "البزق" وأيضا استخدام أسلوب "الموزاييك" يتطلب مهارة ودقة اكبر، ووقت أطول».

الجمبش الخشبي

أما عن الجانب المادي فيقول: «إلى جانب هذه الحرفة فإني أمارس أعمالاً أخرى لكوني أبا، ومعيلا لعائلة، كما أقوم بتصليح الآلات الموسيقية الوترية، مهما بلغت درجة العطل، أو العطب فيها، وأسعار الآلات التي أصنعها مقبولة جداً مقارنة بالجهد الذي تحتاج إليه، وعموما فإن الجانب المادي لا يهمني بقدر ما يهمني المحافظة على الحرفة وتطويرها، وكثيرا ما ساعدت أشخاصاً لمست عندهم حب الموسيقا وهوايتها دون أي مقابل، ولهؤلاء إنما أقدم خبرتي التي يتجاوز عمرها 35 عاماً في صناعة الآلات الموسيقية، والعزف عليها».

وعن مساهماته في تطوير الحرفة وما أضافه إليها اختتم "أبو أياز" حديثه لنا بالقول: «تحتاج هذه الحرفة إلى إبداع مستمر، فالتقليد والجمود يقتلان روح الحرفة، حيث يقوم البعض بالاعتماد على الآلات لتسهيل و تسريع الإنتاج، لكن ذلك يؤثر في جودة الآلة، وأدائها، أما أنا فأرى بان الأسلوب اليدوي الذي يضيف الحرفي من خلاله، لمساته، وأحاسيسه تضفي على الآلة الموسيقية قيمة، وجمالا إضافياً، ومنذ أن تعلمت هذه الحرفة إلى الآن أسعى باستمرار إلى التطوير والتحسين للمهنة سواء بإدخال مواد جديدة، أو تحسينات في الشكل، أو تعديلات في بنية الآلات.

وكان مما توصلت إليه، صناعة آلة "جمبش" من الخشب بعد ما كانت تصنع من الألمنيوم فجاءت النتيجة مذهلة، وقمت بإرسال إحداها إلى الفنان الكبير "آرام تيكران" وقد اتصل بي معبرًا عن شكره وإعجابه الكبير بما أدخلته على الآلة، فكنت بذلك أول من يصنع آلة "جمبش" من الخشب، وقد لاقت استحسان العازفين، كما قمت بإدخال أسلوب "الموزاييك" في صناعة آلات "البزق" و"الجمبش" وهو أسلوب يجعل من الآلة لوحة "فسيفساء" رائعة من خلال تطعيم الآلة الواحدة بعدة أنواع من الخشب، وقد لاقت آلاتي إعجاب العازفين في داخل البلاد وخارجها حتى وصلت إلى أوروبا، وأميركا، ودول الخليج، وتركيا، وقد تلقيت عروضاً من جهات معروفة بهذه الحرفة في تركيا بإرسال الآلات التي اصنعها إليهم، وتكمن المفارقة في انه بينما يسعى الناس إلى الحصول على آلات ذات مصدر خارجي معروف، فإني أتلقى العروض من تلك الجهات لإرسال الآلات التي اصنعها إليهم».

عازف "البزق" السيد "محمد عمر فاضل" «حدثنا عن مهارة "ابو اياز" قائلا: يذهلنا أبو اياز بهدوئه وتأنيه ومهارته في حرفته، وطريقة تعامله مع الخشب الذي لا يملك إلا أن يصبح طوع بنانه ليصنع منها لوحة رائعة في شكل آلة موسيقية».