بعض المعالم قد نمر عليها دون أن نعيرها أدنى التفاتة، لكن بعضها الآخر يتحول إلى جزء من ذاكرتنا وكياننا، ويصبح مرادفاً للمكان والزمان، مكتبة "اللواء" جزء أساسي من الذاكرة الثقافية لمدينة "القامشلي" ومثقفيها، ليست مجرد مكتبة بل مركز إشعاع ثقافي تنويري على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وهي من المكتبات التي استطاعت أن تخلق شيئاً ما في وجدان الإنسان الجزراوي تحديداً.

بقيت في الذاكرة متلازمة مع صورة ذاك الثمانيني صاحب الابتسامة اللافتة والأناقة المميزة، حيث يلفتك تراصف كتب "حنا مينه، نزار قباني، غادة السمان، المتنبي، طه حسين، ديستويفسكي، شكسبير، هيغو" جنباً إلى جنب، بأناقة وثبات على رفوفها بمجلدات ذات طباعة فاخرة، تطل المكتبة على شارع "الجسرين" أحد أشهر الشوارع في وسط "القامشلي"، لكن العامة أعطوا الشارع اسم شارع "اللواء" تيمناً بالمكتبة.

صاحب مكتبة "اللواء" مازالت صورته تمتزج مع المكتبة في تشكيل تاريخ موحد وبث ثقافة متنوعة في روافدها في الغالب

موقع eHasakeh قصد هذه المكتبة التي تعتبر الأولى التي يتم إنشاؤها في محافظة "الحسكة"، حيث التقينا محدثنا "أنيس حنا مديواية" الثمانيني مؤسسها وصاحبها الذي استقبلنا مبتسماً رغم الزحام داخل المكتبة، وحدثنا عن نشأته ونشأة المكتبة قائلاً: «تعود أصولي إلى "الإسكندرونة" التي انتقلت منها مع أسرتي إلى "حلب" قسراً، ومن ثم إلى "القامشلي"، والدي هو "حنا جرجيس مديواية" خريج كلية "ماردين" العالية، سلك في ميدان التعليم يدرس في "الإسكندرونة" اللغتين العربية والانكليزية، نشط على المستوى القومي برفقة المفكر "زكي الأرسوزي"، وحين ضيقت عليه السلطات التركية اضطر للنزوح إلى "حلب" عام 1939، وعام 1940 انتقل إلى "القامشلي" ليدرس في مدارسها، ويتولى إدارة أول مدرسة ابتدائية رسمية في "القامشلي"، على يديه وبتشجيع منه بدأت فكرة المكتبة التي أبصرت النور في العام 1946 تحت اسم "اللوا" تيمناً باللواء السليب، فشكلت ملتقى المثقفين في البلدة من مختلف الأطياف قبل تأسيس المركز الثقافي عام 1958، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر المطران "جورج صليبا"، الأديب "جان الكسان"، الشاعر "علي الزئبق" والممثل المسرحي "سليم حانا"، وامتازت بكونها دار النشر الأولى في سورية، قامت بطبع عشرات العناوين لأدباء ومثقفي البلدة ممن ورد ذكرهم، وقد كان جل ما يهمني من إنشائها أن أقوم بنشر الفكر والعلم والثقافة الملتزمة، وقد جرى طبع هذه المطبوعات في مطبعة "الرافدين"، منذ عام 1948، ولا أزال أذكر اليوم الأول لافتتاح المكتبة حينما اكتظ بناؤها الصغير آنذاك بمثقفي "القامشلي" الذين حملت إليهم المكتبة الصحف والمجلات آنذاك، والتي كانت غائبة بسبب بعد المنطقة عن "دمشق" العاصمة، وصعوبة إيصال المطبوعات التي انعكس غيابها في السابق على الثقافة التي كانت محدودة إلا عند النخبة، علماً أن عدد سكان "القامشلي" كان حينها لا يتجاوز 16 ألف نسمة».

داخل المكتبة

ويضيف "مديواية" متحدثاً عن الفرق بين المكتبات اليوم والمكتبات سابقًا قائلاً: «رغم ازدياد وتنوع الجرائد والمجلات التي تردنا من المؤسسة العربية السورية لتوزيع المطبوعات التي اعتبر منذ العام 1983 وكيلاً لها هنا، ويتعامل معي بحدود الستين مكتبة في محافظة "الحسكة"، إلا أن المبيعات قد انخفضت إلى نصف ما يردنا للأسف، ويعود جزء من هذا الأمر إلى ارتفاع أسعار المجلات والجرائد، بينما في السابق أي في فترة الستينيات والسبعينيات فقد كانت أغلب الجرائد والمجلات على قلتها تنفد ويتبادل نسخها القراء فيما بينهم، ويعقدون جلسات ثقافية يتحاورون من خلالها بما ورد سواء في الكتب أو في الجرائد، مما كان يشكل حراكاً ثقافياً غنياً ساهم في تطور المدينة ثقافياً واجتماعياً ومعرفياً، بينما اليوم تقلص دور الكتاب والجريدة وقراؤهما بسبب انتشار أجهزة الحاسوب وشبكة "الانترنت" بجانب ثورة الشاشة الفضية».

أما عن الفارق بين رواد المكتبة اليوم وفي السابق يضيف "مديواية": «لكل هاو هدف محدد في القراءة وشراء الكتاب، وهناك قارئ جديد وقارئ قديم مستمر، وقراء الأمس كانوا من الذين يهتمون باقتناء الكتب وتدارسها مع أقرانهم، ويحاولون بث حب الاطلاع والمعرفة بين الناس، أما جيل هذا الزمان فهو يطلب روايات الحب أو قصائد الغزل، وهناك من يطلب كتب الأبراج والكتب الدينية وكتب الحاسوب والانترنت، ورغم هذا لا يمكن أن ينقطع ويتوقف عصب التواصل الثقافي، قد يصاب بنوع من الخمول لكنه لن يتوقف، ولا تزال هناك جهود معرفية جديرة بالاهتمام».

قبو المكتبة

وحول تصوراته لأسباب تراجع الحركة الثقافية في "القامشلي" يقول: «انشغال أبناء "القامشلي" بالعمل اليومي لتوفير لقمة عيش للعائلة، يجعل من القراءة خارج نطاق أولوياتهم، وظهور المشاكل داخل الأسرة أبعد بشكل مباشر الفرد عن القراءة والتواصل مع الثقافة بأوجهها المتعددة، وابتعدت الحاجة عن القراءة والبحث عن المعرفة، باستثناء الدراسة في المدرسة أو الكلية، ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أن التنشئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيراً في تعويد الفرد على القراءة والاطلاع منذ سنين طفولته الأولى، فضلاً عن غياب حصة المكتبة المدرسية من المنهج المدرسي، والتي تُسهم في خلق حوار مع الطالب وتحبيبه في الكتاب، كما يلعب السعر الغالي للكتاب الذي يرتبط طردياً مع السوق التجارية دوراً في عزوف الناس عن اقتناء الكتب».

ويضيف "مديواية" في ختام حديثه: «لا أشعر بلذة الحياة إلا بالعمل ونشر الأفكار التي أؤمن بها في أعماقي والذي يحفزني على الدوام هو عشقي لمدينتي وترابها الغالي وحبي الكبير لوطني الكبير "سورية" الذي أعتز به وأفتخر».

من منشورات المكتبة

المحامي "الياس لحدو" يقول عن المكتبة وصاحبها: «تشكل المكتبة جزءاً مهماً من ذكريات مرحلة الشباب، وتفتح الوعي لدى أجيال الستينيات والسبعينيات، فقد شكلت منبرا للقاء نخبة مثقفي المدينة، وبالنسبة لي زيارة المكتبة يوميا هو جزء من نمط حياتي».

الباحث "ابراهيم محمود" يقول: «صاحب مكتبة "اللواء" مازالت صورته تمتزج مع المكتبة في تشكيل تاريخ موحد وبث ثقافة متنوعة في روافدها في الغالب».

بينما يتحدث كتاب "صراع الأضداد" لمؤلفيه "أنور عبد الحميد العسكر" و"السباهي العاني" بالقول: «متواضع بأخلاقه مملوء بشخصيته رفقاً وإنسانية ومحبة لكل الناس، عالي الثقافة ومشبع بالعلوم الحية الشريفة، فهو من خلال إدراكه العلمي، وبتأثير نشأته الأسرية الإنجيلية تجده دائماً متسامحاً حنوناً صادقاً، أنيس الإنسان، أنيس الوديع الذي يحب البشر أضاء شوارع مدينته بكتب العلم والمعرفة».

بقي أن نذكر أن "أنيس حنا مديواية" من مواليد "لواء إسكندرون" حاصل على الابتدائية الفرنسية والسورية وبعد خروج الفرنسيين عين رئيساً لمصلحة الإنتاج لدى مالية "القامشلي" وعين عام 1958 رئيساً للجنة الدفاع عن لواء "الإسكندرونة"، ونجح في انتخابات "الاتحاد القومي" إبان الوحدة بين سورية و"مصر" ممثلاً للتربية والتعليم يتكلم الفرنسية والانجليزية والتركية إلى جانب العربية، متزوج وله ولدان وثلاث بنات وله كتاب مطبوع هو "منهل الإملاء" والعديد من القصص التي نشرت في جريدة "الانتقاد" اللبنانية.