قصة حب باتت نموذجاً للأدب الرفيع الذي تشرق فيه العاطفة الملتهبة والمأساة المؤثرة والعفة السامية والوفاء النادر، عمرها مئات السنين وخلدها الكثيرون في أذهانهم ودفاترهم للاقتداء بها، وتقليدها في مشاعرهم العاطفية.

مدوّنة وطن "eSyria" وبتاريخ 16/9/2013 وقفت عند قصة حب كردية أذهلت قرّاء ومتابعي أحداثها ومجرياتها، وهي من تأليف الشاعر "أحمد الخاني" وقد ترجمها "العلامة الدكتور محمّد سعيد رمضان البوطي"، واستمعت إلى سرد عن القصة من كتاب الدكتور "البوطي" لوقائع قصّة "ممو وزين"، قدمه الشاعر "محمّد سعيد"، فبدأ قائلاً: «هي من روائع الأدب الكردي في "القرن السابع عشر ميلادي"، هذه القصة الواقعية التقطها الشاعر "أحمد الخاني" من واقعه الاجتماعي الذي كان هدفه الأسمى صون حقوق المرأة وشرعية "الحب العذري"، والدكتور"البوطي" نفسه ابتدأ كتابه بالحديث عن "الحب العلقم" والقلب الذي يتجرع مرارته، وأهدى الكتاب لمن يتجرع ويعاني من الهوى، وعرض قصته التي انتقاها من أكوام الروايات العالمية التي دفعته إلى ترجمتها، فهي قصة حب أليمة، من التفاوت الاجتماعي بين الطبقة الحاكمة والطبقة الفقيرة، فالبطل العاشق "ممو" شاب من الطبقة الفقيرة يعمل في ديوان الملك، تربطه علاقة صداقة متينة مع "تاج الدين" وزير الملك، وفي الطرف المقابل الأميرة "زين" بطلة القصة، التي عاشت حياة رفاهية وعز في قصر أبيها مع شقيقتها "ستي"، التي كانت لا تفارقها وحافظة لأسرارها».

علّامة أدبية وإسلامية مثل الدكتور "البوطي"، عندما يدوّن في كتابه عن "ممو وزين" فهذا يعني أنها تستحق الوقوف مطولاً، فأغلب الشعراء وحتى عامة الأهالي يستشهدون دائماً ويتشبهون بالعاشقين المذكورين، وهناك الكثير ممن يذهب إلى "بوطان" لرؤية قبري العاشقين

ويتابع "سعيد": «هي ملحمة شعرية حبيّة نال من أنينها ووجعها البطلان العاشقان فقط، بدأت الحكاية بأحلام أنثوية للأميرتين الحسناوين "ستي" و"زين"، في رؤية فارس أحلامهما يأتي وينتشلهما من رتابة الحياة في ذلك القصر المظلم بقراراته وقهره وكأنه يشبه السجن، فكان قرار الشقيقتين الظهور في حفلة "النيروز" بين الناس بأزياء عادية رجالية، لتعيشا العيد كبقية الناس دون تكلّف، وتبحثا عن فارسي أحلامهما، وفعلتا ذلك واستمتعتا "بالنيروز"، وعندما حان وقت العودة، لحقت بهما جاريتان وكأنهن يستغثن بهما، وما إن اقتربتا حتى سقطتا مغشياً عليهما، احتارت كل من "زين" و"ستي" من أمرهما، هل تعودا أم تنتظرا لتعلما ما خطب هاتين الجاريتين، أحست كل منهما بعطف تجاههما، وشعور غريب لم تعرفا ما سره، فجأة أقبل موكب الملك نحو "زين" و"ستي"، فخافتا أن يكشف أمرهما أو أن يميزهما أحد الحراس والغلمان، فوضعت كل منهما خاتمها في يد إحدى الجاريتين، وأسرعتا بالهرب نحو القصر».

كتاب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

ومما قاله: «مضى ذلك اليوم بخير دون أن يكشفهما أحد، وفي ذلك اليوم بدت الشقيقتان وكأنهما مصدومتين حائرتين، لم تعرف أي منهما ما سبب هذا الشعور، وكل ما يشغل تفكيرهما معرفة سر تلك الجاريتين، ومن تكونا؟ ولمَ كانتا تعدوان وراءهما؟ بدا عليهما وكأنهما من عائلة مرموقة بملابسهما الفاخرة، شحب وجه الأميرتين من التفكير ونحل جسدهما، فأثارت الريبة "ساحرة" كانت تسكن القصر، فباحت كل منهما بشعورها الحائر "للساحرة" لتساعدها بكل سرية في إيجاد تلك الجاريتين في هذه البلدة الواسعة، فتنكرت بهيئة طبيبة تعالج المرضى دون أجر، وجابت البلدة شهراً وهي تتحرى عن الجاريتين، وإذا بها قابلت أحد "العرّافين" الكبار فسألته عنهما، فأجاب "العرّاف": ليستا جاريتين، بل هما شابان من خيرة شباب هذه البلدة، استغربت "الساحرة" من كلام "العرّاف"، لكنها سرعان ما ذهبت إلى مكان وجود الشابين، فوجدتهما طريحي الفراش كالأميرتين، كل منهما في حيرة، ترى ما هذا الشعور الذي ينتابهما تجاه الشابين اللذين تبعاهما، فالشابان هما "ممو" و"تاج الدين" تنكرا بزي جاريتين يوم "النيروز" ليسهل عليهما الدخول في الأوساط النسائية أملاً في لقاء الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في منطقتهم "بوطان"، فإذا بتلك الحادثة جمعتهم، هرعت الساحرة مسرعة إلى الأميرتين بعد غياب طويل، كانتا تنتظرانها بشوق لتكشف عن حقيقة الجاريتين، فأخبرتهما أنهما ليستا جاريتين، بل هما شابان تنكرا لرؤيتهما، وكأن الكون كله دبّر ليبارك هذه المصادفة، أطبقت الأميرتان صمتاً وجلستا على الأريكة ببطء، وعيناهما متسعتان من الحيرة شروداً وذهولاً».

والشاعر يضيف: «بعد ساعة رجعت كل منهما إلى صوابها، واختلجت كل منهما نشوة حب عارمة رغبت كل منهما في الصراخ بها، شكرت الأميرتان "الساحرة" واتفقتا أن تكون مرسال حب بين الطرفين، فكانت "الساحرة" مخلصة في نقل كل تفصيل من تفاصيل الآخر، فتقدم "تاج الدين" لخطبة "ستي" بعدها واثقاً بأن الملك لن يرفض مصاهرته، فهو وزير ديوانه ومن عائلة عريقة، لكنه كان يتكبد هم صديقه "ممو"، ذلك الشاب الذي ينتمي إلى عامة الشعب، كان هذا الشاب البسيط غارقاً في حزنه وكربه، لتفكيره بالهوة بينه وبين "زين"، عزم "تاج الدين" على الزواج على الرغم من ذلك أملاً في أن يشفع له عند الملك عندما يصبح "صهره"، فوافق عليه "الملك"، وأقيم لهما عرس لم تشهد "بوطان" من قبله، وكيف لا وابنة "الملك" ستتزوج من خيرة الشباب "تاج الدين"، لكن ظل "ممو" حبيس حزنه وتردده واجداً باسم "زين" حتى ذاع حبه لها في كافة أنحاء البلدة، وبدأ الناس يتحدثون عن هذا الحب العذري، فاستغل الحاجب "بكر" الفرصة ليحدث الفتنة بين الأمير أخي "زين" و"تاج الدين" الذي يكن له أشد أنواع العداء، فراح يشي للأمير بأن "تاج الدين" يخطط لتزويج "ممو" من أخته، واستدل بأن الشعب كله يعلم برغبة "ممو" في الزواج منها، فغضب الأمير وولعت نيران الكره والغضب في صدره وأطفأت عقله، فدعا "ممو" إلى قصره».

ومن أحداث القصة: «بدأ الأمير باستدراجه عن طريق الحوار معه على طاولة الشطرنج، وكشف فيها حبه لـ "زين" أخيراً، ووقع في شراك الأمير، فأمر بحبسه في قبو مظلم عقاباً على حبه للأميرة، ومرت سنة على حبس "ممو" دون أن يأبه له الأمير، ومن الناحية الأخرى ساء حال "زين"، فهزل جسمها واصفرّ لونها، واجتاحها الضعف والمرض حتى أصبحت طريحة الفراش لا تقوى على الحراك، كل ذلك من جوى الحب وعذابه الذي أصاب روحها وبان على جسدها، خارج القصر كان "تاج الدين" ثائراً وناقماً على الأمير وما فعله بأعز أصدقائه، وبين محاولة وأخرى كان يحاول أن يسترضيه ويأخذه بالحيلة ليخرج "ممو" من السجن، لكن محاولاته باءت بالفشل، فطفح كيله وقرر الثورة على الأمير بصحبة شباب أهل البلدة وفوضوا أمرهم لشيخ حكيم ليفاوض الأمير المفاوضة الأخيرة، لكن الأمير أدرك خطورة الموقف وسرعان ما تدارك الموضوع باستشارة الحاجب "بكر" الذي كان متخصصاً في طبخ كل المؤامرات والحيل القذرة للتخلص من المشكلات، فكان رأي "بكر" أن يحاول تهدئة الثوار خارج القصر بكذبة ووعد زائف، بأنه سيطلق سراح "ممو" وسيزوجه من أخته، فسمع له الأمير، وبلغ "تاج الدين" وهدأ الوضع وابتعدوا عن القصر، وتراجعوا عن ثورتهم، وفي جولات الأمير على قصره، مرّ على غرفة "زين" التي قاطعها مدة طويلة، ورأى فيها الحزن والأسى والمرض، وكأنها ليست أخته التي عهدها، تلك الأميرة الحسناء التي تضرب بها آيات الجمال، وكأنها حورية في الأرض، المشهد اختلف عند الأمير، فدنا من أخته وكانت لا تكاد تتكلم من شدة المرض ولا تكاد تتحرك، فباتت طريحة الفراش، وعندما رآها الأمير شعر وكأن الدنيا ضاقت عليه، تعتصره عقاباً لما فعل بأخته، أشفق عليها إشفاقاً شديداً، وكان يعض أصابع الندم على تصرفه، وكأنه باع سعادة أخته بقذارات الدنيا: المال والجاه، سقط بين قدميها باكياً قائلاً لها: لك ما تريدين وسأزوجك من "ممو"، فغُشي على "زين" من المرض، واندفعت من فمها دماء كثيرة، في المقابل جاء حاجب الأمير هرعاً ليقول له إن "ممو" في حالة سيئة من المرض».

ومما جاء في كتاب "البوطي" حول تلك القصة: «اجتاح ضمير الأمير الندم، وبكى أكثر وبعد أيام استيقظت "زين" ورأت أخاها جاثياً بين قدميها، فقالت له: أتبكي في يوم فرحي وقرب لقائي "ممو"، قالتها وكأنها تعلم علم اليقين بفنائهما من الدنيا، وأن عرسهما لن يكون إلا متجرداً من الأجساد لتحلو لهما ممارسة الحب بكل خفة في العالم الآخر، وكانت وصيتها أن تكون جنازتها عرساً كعرس "ستي" ليحتفل العالم بزواجها من "ممو"، أحب الأمير أن يكفّر عن ذنبه تجاه الحبيبين، فأخذها إلى "ممو" في سجنه متزينة بأبهى حلة للقائه، كان "ممو" شارداً هائماً لم يكن حاله أفضل من حال "زين"، فدنا منه الأمير أولاً، فقال له: "زين" لك سأربطك بها، فرد عليه "ممو" غاضباً إنه لا يريد منه أن يربطه بها لأن هذا الرباط المقدس ليس بيده بل بيد سلطان أعلى وقوة أسمى من كل شيء، فدنت منه "زين" وأمسكت بيده، وكأن روح "ممو" عادت إلى الحياة، فغشي عليه ومات، ولحقته "زين" بموتها بعد مدة قصيرة، فدفنا في قبر واحد».

وكان للشاعر "علي عبد الله" حديث عن تلك القصة فقال: «علّامة أدبية وإسلامية مثل الدكتور "البوطي"، عندما يدوّن في كتابه عن "ممو وزين" فهذا يعني أنها تستحق الوقوف مطولاً، فأغلب الشعراء وحتى عامة الأهالي يستشهدون دائماً ويتشبهون بالعاشقين المذكورين، وهناك الكثير ممن يذهب إلى "بوطان" لرؤية قبري العاشقين».