«أنا لا أحب دور الواعظ، ولا حتى دور المعلم، فالآخرون ليسوا تلاميذ في مدرستي، ولكنني أتفكّر بشكل عام بأن تظلّ عيوني مفتوحة على مداها لأرى جيداً، وأن تكون أذناي مستعدتين لسماع الآخر، أن أستبدل فظاظة الكلام بحكمة الصمت، ربّما أذكّر نفسي بضرورة المتابعة في القراءة إن انقطعت عنها لسبب أو لآخر، وقد أدعو الأصدقاء الشباب بكثير من المحبة إلى وقفة متأملة في ما ذكرت، لكن من موقع الندّ والرفيق والصديق، لا من موقع ترفع الأستاذ، أو تكبّر المعلم».

إنه الأديب "محمد باقي محمد" رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في "الحسكة"، الذي زاره eSyria في مكتبه يوم الخميس في 26/2/2009 وأراد التعمق أكثر في وجدان وحياة هذا الأديب الإنسان في الحوار التالي.

  • تاريخ الميلاد والبدايات في كتابة القصة؟
  • في أحد المهرجانات الأدبية

    ** تاريخ الميلاد ربّما لا يكون تاريخ ميلادي بالمعنى الشخصي مهماً بالنسبة للآخرين، ولذلك سأتحدث عنه بطريقتي، لأقول بأنّني أنتمي إلى جيل الستينيات، أي إلى الجيل الأول الذي تكوّن وعيه في ظلّ الاستقلال عن الفرنسيّ، وبالتالي فهو جيل الأحلام الكبيرة في بناء دولة مزدهرة، وتحقيق مجتمع عادل، لأنّ هذا الانتماء والظروف التي ستلم بالمنطقة، سيكون لها أثر بالغ على نظرتي للحياة، وبالتالي ستنعكس في تجربتي الإبداعية، هذا إذا كان الآخرون يصنفونها في هذه الخانة. أما البدايات فتعود إلى نهاية الثمانينيات، آنذاك كانت صحيفة "الثورة" تصدر ملحقاً ثقافياً، وكان الشاعر "شوقي بغدادي" مكلفاً بصفحة الأدباء الشباب، فنشر لي أول نصّ أرسلته له، ما عزز ثقتي بنفسي، ولما أرسلت له قصة ثانية نشرها، وقرضها بالكثير من الإيجابية، فتتالت المحاولات، إلى أن نشرت مجموعتي الأولى "أغنية منتهية بالرصاص" في عام /1986/، ثمّ كرّت السبّحة.

    * ما العمل المسند إليك؟

    ** بالنسبة للعمل كانت البداية في "وزارة الزراعة" على أساس الشهادة الثانوية، وبعد تحصلي على الشهادة الجامعية من قسم الجغرافية في كلية الآداب بجامعة "دمشق"، ودبلوم في التأهيل التربوي من كلية التربية بالجامعة ذاتها، انتقلت للعمل في "وزارة التربية"، لأعمل بصفة مدرس، وأنا الآن مكلف برئاسة فرع "اتحاد الكتاب العرب" في المحافظة إضافة إلى عملي الأساسي! كما أنّني أقوم بتقديم قراءة نقدية في قصص الموقف الأدبي، أيضاً بتكليف من الاتحاد.

    في أحد نشاطاته الأدبية

  • كيف تنظر إلى حال الأدب اليوم، وما هو تقييمك للمشهد الثقافي؟
  • ** قد أحيلك إلى لغة الأرقام، تاركاً التقدير للقراء، فعندما صدرت مجموعتي تلك، كان عدد النسخ المطبوعة ثلاثة آلاف نسخة، ومع ذلك فلم يكد يمضي على صدورها ستة أشهر، حتى كانت قد نفذت من الأسواق، حتى أنا ليس عندي نسخة منها الآن! ولذلك استعرت نسخة أحدهم، ونقلتها إلى حاسوبي، أمّا اليوم وبعد صدور مجموعتين تاليتين ورواية، كان عدد النسخ من الرواية التي نشرتها عام / 1997/ ألف نسخة، ولا يزال في حوزتي نسخ منها، صحيح أنّها ليست معروضة في الأسواق منذ أمد ليس بالقريب، ولكن الأرقام تفصح عن نفسها، وما عليك سوى استنتاج الدلالات!

    ثمّ إنّ الجواب سيقودنا ثانية نحو البدايات، لقد كبرنا في ظل شعارات كبيرة كالحرية والاشتراكية والوحدة، فما الذي تحقق منها!؟ وبالتالي كيف نطلب من مجتمعات مأزومة ومهزومة أن تكون متعافية أدبياً!؟

    ومع ذلك فالصورة متداخلة ومتناقضة، ذلك أنّها في الجانب الإيجابي تشهد امتداداً أفقياً، لتشمل القطر كله، حتى لكأنّ هناك ورشة عمل دؤوبة في كل مكان منه، تشتغل على الأجناس الأدبية بلا استثناء! ثمّ أنّ ظهور الجهات المتخصصة - على ما يعتور عملها من نقص - ستلعب دوراً إيجابياً في المشهد الثقافي، وهنا يبرز دور "وزارة الثقافة"، و"اتحاد الكتاب العرب"، وعلى الحواف سيظهر وجه آخر مؤثر بالمعنى السلبي، أقصد النقد، فالعمارة النقدية في القطر لا توازي العمارة الإبداعية، وهذا يسهل تسلل الانتهازيين، وأنصاف المواهب! طبعاً أنا لا أذهب إلى أن ليس ثمة نقاد، ونقاد مهمين أيضاً، في القطر، وقد أذكر الأستاذ يوسف اليوسف على سبيل المثال لا الحصر، إذْ من المؤكد أنّ الرجل يقف في الصف الأول إلى جانب النقاد الكبار من مختلف الأقطار العربية، ثمّ أنّ للمسألة وجه آخر له علاقة بلقمة العيش، فالجهة التي تدفع للمثقف على مستوى الوطن العربي اليوم هي أقطار الخليج، التي تعيش طفرتها النفطية، وفي ظل هكذا وضع كيف لنا أن نطالب الناقد بالحقيقة كاملة من غير نقص، والمشهد هناك معروف، بعيداً عن بريق الجوائز، التي تعكس الإمكانيات المالية، التي لا حدود لها!؟ ذلك أنّني لا أستطيع أن أتحدث عن شعراء السبعينات، أو الثمانينات في الإمارات المتحدة مثلاً، طبعاً مع استثناء اسم هنا، وآخر هناك، ولكنّ زهرة لوحدها لا تصنع بستاناً!

    طبعاً أنا سأتجاوز عن الشللية البغيضة، التي تفرض ظلها على المشهد، شللية في المؤسسات التي ذكرتها، وفي الصحافة، فالمواقع عندنا تشكو الشخصنة، أي أنّها تحتكم في كثير من شؤونها وشجونها للأمزجة، وليس للعمل المؤسساتي الرصين!

    وإذا ذهبت إلى ما هو أبعد فقد أذكرك بأننا لا نملك نظرية في الأدب الآن، نحن نحتكم إلى الغرب، ونتماهى به في علاقة الأضعف بالأقوى، الأطراف بالمركز، التي جاء عليها "ابن خلدون" في مقدمته، هذا يشمل الفكر الفلسفي والعلوم والتقانة ومناحات الحياة كلها، نحن مجتمعات استهلاكية من طراز رفيع، قد تقول لي بأن ما أقوله ينطبق على الغرب الأوروبي، وٍسأوافقك الرأي، لكن بعد أن أذكرك بأنّها مجتمعات منتجة، وأنّ حجم التنمية فيها يفوق بأضعاف زيادتها السكانيّة، ثمّ أنّنا لسنا وحدنا في هذا الكون، وها هي رياح العولمة تهب بعجرها وبجرها، فتتناقص الأجور في قدرتها الشرائية، ويستشري الغلاء العالمي ليحكم سوق الكتاب كأي مُنتج آخر!

    وفي ظل العولمة يشهد العالم الثالث تغيراً بنيوياً في تركيبه منذ الاستقلال، وهذا حال القطر أيضاً، لقد كان المجتمع السوري ينقسم إلى أغنياء معدودين على أصابع اليد، ومثلهم من الفقراء، فيما كانت الشريحة الوسطى تمثل الغالبية، باعتبارها المنتج الفعلي للخيرات المادية في المجتمع، وفي الوقت ذاته كانت الحامل السياسي لمشاريع التغيير!

    اليوم ثمة استقطاب حاد، ليس في القطر لوحده، بل ربّما على مستوى العالم ككل عدا بعض الاستثناءات، فلقد راحت المجتمعات تنقسم إلى شريحتين فقط، لقد ازداد عدد الأغنياء بعض الشيء، ولكن ثبات الأجور وغلاء الأسعار، دفع بالشريحة الوسطى سريعاً نحو الانحدار إلى ما تحت خط الفقر، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً عمن سيحمل مشاريع التغيير، وإلى أين نحن ذاهبون، إنّه سؤال مصيريّ، وليس تشاؤم كاتب.

  • ما الآلية الكفيلة بالنهوض بالمشهد الثقافي نوعاً؟
  • ** بداية أن ينسى الذين يشغلون موقع المسؤولية الأمجاد الشخصية التي قد يتوهمونها، ناهيك عن المصالح الشخصية، وأن يتناسوا الخوف من الإخفاق أو الخطأ، فالذين لا يخفقون أو لا يخطئون هم الذين لا يعملون، ذلك أنّ الخطأ سمة بشرية، ونحن لسنا أنبياء أو قديسين، شريطة ألاّ يعكس هذا الخطأ سوءاً في النوايا، لأنّ الأمر عندها سيختلف، إذْ أنّه سيندرج في خانة التعمد!

    ومن ثمّ أن نتفكّر في العمل الجماعي، أي أن نفكّر بعقلية فريق العمل، وهي ثقافة غائبة في ممارساتنا، أنت تعلم بأنّ المنظمات كلّها تنضوي في هياكلها على مكاتب ثقافية، وهذا حال النقابات، "الأطباء"، "المحامون"، "المهندسون"، "المعلمون"، "الفلاحون"، "العمال"، "الطلبة"، و"الاتحاد النسائي" وكليات الجامعة، إلى جانب مديرية "الثقافة"، "اتحاد الكتاب"، "اتحاد شبيبة الثورة"، و"الطلائع"، ولك أن تتصور الحال، لو اشتغلت أكثر من جهة في هذا الجانب يداً بيد، وأن تلمس كيف ستتضافر الجهود عندها، وبالتالي كيف ستكون النتائج!؟

    من كلّ ما تقدم من جهات، ثمة تعاون بين "فرع الاتحاد" و"مديرية الثقافة" يصل إلى حدود التوأمة، وهذا يشمل "اتحاد شبيبة الثورة" أيضاً، فماذا عن الجهات الأخرى، نحن لم نبخل على أحد بالمعونة، ولنا في مهرجان "الخابور" الذي يقيمه "مجلس مدينة الحسكة" خير مثال، فهم يستعينون بنا في التحكيم لمسابقات المهرجان!

    نحن في فرع الاتحاد نمنح كل مدرسة تتحصل على موافقة المكتب التنفيذي خمسين أو خمسة وسبعين أو مئة كتاب من منشورات الاتحاد مجاناً، وفي السنة المنصرمة شكلت "مديرية التربية" لجنة لدراسة أوضاع المكتبات في المدارس، فارتأت إنهاء ندب أمناء المكتبات في المدارس التي ليس بها مكتبات، وإعادتهم إلى التعليم، بدل أن تطالب ببناء أو ترميم مكتبات فيها، أليس هذا أشبه بكابوس!؟ لقد حاولنا أن نتدارك الأمر بسرعة، فلجأنا إلى السيد "مدير التربية"، الذي استجاب لرجائنا، وتمّ الاتفاق على أن نوجه إليه كتاباً كتاب عن طريق السيد "محافظ الحسكة"، ليصار إلى تعميمه على المدارس، يلزمها بأن تشتري ما ترمم به مكتباتها عن طريقنا، ذلك أنّ الجميع يعرف بأنّنا نقدم الكتاب بأسعار لا تنافس، ولكنّنا لم نتلق طلبات شراء منها، فهل لك أن تخبرني عن مكمن الخلل!؟

    لقد غادر الناس المراكز الثقافية لأكثر من سبب، قد يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي أو بغيره من الأسباب، وبالتالي، وكخطوة أخرى على الطريق، بعد العمل الجماعي، ربّما كان علينا أن نتفكر في أنشطة نوعية نستعيد بها ما أمكن مَنْ سرقتهم المقاهي أو انشدوا إلى أجهزة التلفاز من جمهور الثقافة، بمعنى أن نحضر أسماء كبيرة، تتمتع بالمصداقية عند الناس، لنعيدهم إلى أنشطتنا ثانية، من غير أن ننسى الشباب الموهوب، الذين نستطيع أن نتيح لهم الفرصة للظهور في ظلّ الأنشطة النوعية تلك، وأنت تعرف الكثير عن تجربة فرع الاتحاد في هذا الجانب، وتعرف الكثيرين من الشباب الذين أسهم الفرع في تقديمهم، وهم اليوم يحصدون المراكز الأولى في المسابقات على مستوى القطر، عد إلى مسابقة "العجيلي" في "الرقة"، أو إلى مسابقة "رابطة خريجي الدراسات العليا" في "حمص"، أو إلى المسابقات المركزية لاتحاد شبيبة الثورة، وستفصح الأرقام عن نفسها!

    نحن نحاول إشراك الفعاليات الشعبية، أفراداً وشركات، في دعم أنشطتنا، فنحن نحتاج إلى المال، لنغطي به انتقال المحاضرين ومنامتهم والإطعام، ولكننا لا نلقى استجابة تذكر، على عكس الرقة التي نفذت مهرجانات عالمية بدعم تلك الفعاليات!

    قد نحتاج في هذا الجانب إلى دعم الدوائر صانعة القرار، كما في أسبوع الفكر الذي نفذناه في العام المنصرم تحت عنوان " العولمة والآخر"، وكان لدعم السيد محافظ الحسكة مادياً دور كبير في إنجاحه، ناهيك عن دور "مديرية الثقافة"! وهذا ما كان في مهرجان "القصة السورية"، فلقد قدّم "اتحاد الفلاحين" استراحته لضيوفنا، بإيحاء من السيد "أمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي" في المحافظة! طبعاً قد لا يكون المطلوب من هذه الجهات أن تقدم لنا الدعم المادي المباشر، إذْ أنّها تستطيع أن تدفع الآخرين، أفراداً وشركات، في القطاعين العام والخاص، لتقديم يد العون لنا، ولو في الحدود الدنيا!

    هكذا في حدود ما أتوهم، قد نستطيع أن نقلع بخطى ثابتة نحو مشهد ثقافيّ يتسم بالحيوية، ويدفع بالحراك خطوات إلى الأمام.

  • ما أهم مشاركاتك في المسابقات الأدبية؟
  • ** لقد شاركت في أكثر من ملتقى، كـ"مهرجان القصة" في "طرطوس"، ولكنني قدمت فيه قراءة نقدية، كما شاركت في الاحتفالية السنوية لرحيل زميلنا "خليل جاسم الحميدي" في "الرقة"، وحللت كضيف على مهرجان "العجيلي" للرواية في الرقة في إحدى دوراته، ناهيك عن إسهامي الدائم في المسابقات المركزية لاتحاد شبيبة الثورة، وأنا الآن مكلف بتقديم قراءة نقدية في القصص التي تنشرها مجلة "الموقف الأدبي" الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بشكل شهريّ، ناهيك عن أنّني كنت في لجان التزكية لعضوية الاتحاد في إحدى الدورات!

    أمّا عن المسابقات فأنا بعيد عنها، لقد شاركت في مسابقة "المزرعة" ذات مرة، ولكنني لم أكرر التجربة، ذلك أنّ مسابقاتنا تحتكم إلى المجاملات والعلاقات الشخصية، تماماً كما في مهرجانات السينما، إذْ تمنح جائزة لجنة التحكيم مثلاً للقطر المضيف، لا لشيء! اللهم إلاّ لأنّه الجهة المضيفة!

    أنا لا أنكر بأنّ بعض أعضاء تلك اللجان نزيهون، ولكن زهرات متفرقات لا تصنع ربيعاً كما أسلفت، وعلى العموم فهذا رأي شخصيّ قد أكون مصيباً فيه، وقد لا أكون.

    *كيف ترى إلى حال الكتاب اليوم، وأين يتموضع في ظل غزو الأنترنت والمكتبات الإلكترونية؟

    ** أظنه ما يزال بخير، فهو رفيق دائم قد يرافقك إلى الفراش، وهو أكثر راحة في التعامل من الكتاب الإلكتروني، هذا في الأفق المنظور، ولكن من يدري، فقد تنتظرنا مفاجأة غير سارة في كل منعطف، لكن إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية مختلفة، لاكتشفنا بأنّ الأنترنت، وانتشار المواقع الإلكترونية، وسهولة الاتصال بالآخر، ناهيك عن سرعته، أسقط الرقابة التقليدية البغيضة في غير مكان، ناهيك عن تيسير الوصول إلى المعلومة على الباحث، بيد أنّني ما أزال غير قادر على استبدال الكتاب الورقيّ بالإلكتروني.