لم ترضخ لمتاعب ومصاعب الحياة، بل رسمت لاسمها ونفسها مكانة مهمة في المجتمع، لتكون فاعلة وفعّالة بمنتجاتها اليدوية، في ظلّ ظروف تمرّ بها المرأة السورية عموماً، من نزوح وعدم استقرار، وأحياناً فقدٍ لعميد الأسرة أو المعيل.

مدوّنة وطن "eSyria" وبتاريخ 1 آذار 2015، زارت السيّدة "شيراز حسين كُل" للوقوف عند رحلتها في الحياة، وهي ملأى بالمحطات العديدة، وكلها محطات فخر وعمل ومثابرة، على الرغم من نغمات الأسى الكثيرة التي واكبتها، وأُولى نبرات الأسى مع ولادتها، فقالت عن ذلك: «وُلدتُ فوجدت من حولي أباً مريضاً، ما لبث أن فارق الحياة، وفارقنا معه نعمة الحنان والمساندة والدعم المعنوي والمادي، وفرضت علينا يوميات قاسيّة وصعبة، وأصعب ما واجهني أنني دخلت القفص الذهبي وعمري لم يتجاوز الـ12 عاماً، وكان لدي طفل وعمري 13 عاماً، وتزامن ذلك بتركي لمقاعد الدراسة، ومن هنا كانت رحلة البداية خاصة أن عمل زوجي تطلب منه الذهاب إلى مدينة "طرطوس"، وأنا ذهبت إلى السوق وتحديداً إلى أحد بائعي الصوف، وحصلت منه على مجلة خاصة بتعليم أساسيات الخياطة، ولمدة وصلت إلى أربعة أشهر وصلت إلى درجة كافية من التعليم دون أي معلم أو موجه، حتّى إنني لم أحصل على استشارة من أحد، خاصة أنني بين كل فترة وأخرى كنت أحصل من ذاك البائع على كميات من الصوف، وكل ما هو جديد من تلك المجلات الخاصة بتعليم الخياطة».

من يتصفح ويتمعن سيرتها ورحلتها يجد عندها السخاء والعطاء، وروح العمل الصادق والوفي، كلما زرنا العيادة نجدها تنجز أو تصنع قطعة من الملابس؛ إذا كان لديها وقت ولو بسيط للراحة أو غياب المرضى. قدّمت لها العروض الكثيرة ومن أكثر من جهة في سبيل الحصول على منتجاتها، وأنا من بينها، واتفقنا على أن توزع منتجاتها على كل المحافظات السوريّة، والاعتزاز كبير بمثل هذه المرأة

وتضيف "شيراز" حول رحلتها: «تعب وجهد يومي مع الصوف و"السيخ" الخاصة به، والتربية الأسرية التي فرضت عليّ وأنا في سن مبكرة. بعد سنوات أربع في "طرطوس" كانت الوجهة إلى مدينة "الرقة"، وهنا أيضاً حافظتُ على عملي في مجال المنتجات اليدوية، مع مضاعفة الجهد في المنزل فقد بات لدي ثلاثة أطفال، ومع ذلك لم أتوقف يوماً واحداً عن العمل في الهواية والمهنة التي أحبتني وأحببتها بل تحولت إلى قطعة من جسدي، والمحطة الثالثة لي كانت في بلدة "الطبقة"، وهناك وهبني الله طفلاً مريضاً بمرض مزمن، وكانت الحصّة الأكبر لذاك الطفل، وباقي الوقت وعلى حساب الراحة كنت أمارس مهنتي بحمل صنارات الصوف، وكل ذلك الجهد في سبيل تقديم كل ما يلزم لأطفالي والمساعدة في المصروف، وحتّى لا يذوقوا ما ذقته في طفولتي، والوقفة التالية وبعد عامين من "الطبقة" كان التوجه إلى منطقة "عفرين"».

بعض أعمالها تنجز في عيادة طبية

من المحطات المهمة في حياتها كما تقول "شيراز" في "عفرين": «في هذه المنطقة كانت الخبرة في أعلى الدرجات، وكنت أجهز كافة القطع وأنواع الملابس سواء الصيفية أو الشتوية، للصغار والكبار وبكافة الأحجام، وكنت أقدم وأبيع كالعادة للمعارف والمقربين والجيران، فمنحتني الوالدة مبلغاً من المال من أجل شراء ماكينة خياطة، لأنها وجدت في عملي الدقة والمهارة، وبحكم العلاقات الاجتماعية الكبيرة لي كانت منتجاتي تصل إلى أكبر عدد، وبدأت القطع التي أقوم بخياطتها تدخل إلى المحال في بلدتي "عفرين، جنديرس"، والفرحة الأكبر لدي كانت بعد أن قمتُ بتعليم عدد كبير من فتيات تلك المنطقة مهنة الخياطة، وبعد فترة من التعلّم دخلن العمل ودخلت بضاعتهن إلى السوق، فالسنوات الثلاث في "عفرين" لم أكن أذوق فيها طعم الهدوء والراحة نهائياً، والألم الكبير لدي كان عند بيعي لماكينة الخياطة من أجل معالجة ابني المريض، فعدت إلى العمل بالصوف من جديد».

المحطة القادمة كانت في "الجزيرة" السورية: «توجهت إلى بلدة "رأس العين" وقضينا فيها أربع سنوات، وكل هذا التجوال بسبب مهنة وعمل زوجي، وهنا كنتُ أقوم بالعمل على "السيخ" في الصوف، وأعمالي كانت لمن يعرفني ويعرف دقتي في العمل، وليس من أجل المال فقط، بل تعلقت تعلقاً شديداً بكل شيء له علاقة بالخياطة، علماً أن القطع التي كنت أنجزها كانت بطريقة مميزة، حيث لا تتشابه قطعتان إحداهما مع الأخرى، وكانت هذه الطريقة من أسباب الإقبال الكبير على منتجاتي، والميزة الأخرى في عملي أنني لا أحصل على المقاسات، بل الكثيرات من السيدات يشرن بأصابعهن إلى حجم القطعة المطلوبة، وتجهّز بدقة متناهية، وما ساعدني على تميّزي في عملي رسمي على الورق، فكل قطعة أريد خياطتها أقوم برسمها أولاً على ورقة ما، كل جهدي في سبيل أطفالي والحمد لله أنهم من المتفوقين في المدرسة، خاصة طلبة الشهادة، أمّا محطتي الأخيرة في التجوال فكانت في مدينة "القامشلي"».

شيراز تتباهى بمهنتها رغم المتاعب التي رافقتها

تقول "شيراز" عن محطتها الأخيرة: «قبل أربع سنوات حضرت إلى المدينة برفقة زوجي ودائماً بحكم عمله الوظيفي، ولأنّ الأزمة طالبتنا بجهد مضاعف، توجهت إلى عيادة طبية للعمل فيها كممرضة، إضافة إلى متابعة عملي الأساسي في المنزل ووقت الراحة وفي العيادة، والكثيرون من زبائني من زوّار العيادة، وبدأت الأعمال تنتشر بكثرة في المدينة والريف، خاصة أن الأسعار زهيدة للغاية، حتّى المؤسسات والجمعيات الأهلية والخيرية تأخذ من منتجاتي. وحتّى نواجه الأزمة براحة مادية قمنا أنا وأطفالي في المنزل بغسل الخضار وتجهيز المؤونة الخاصة بالصيف والشتاء للأسر الراغبة بذلك ومقابل أجر مادي، وكل ذلك في وقت استراحتنا، ربما لم أشعر بالراحة ولكن بالمقابل أنا في قمة السعادة لأنني أنجز شيئاً مهماً، ولأنني كسبت علاقات اجتماعية عديدة وفي جميع المناطق التي تجوّلت فيها».

السيد "محمد نور علي" أحد تجار الألبسة في "القامشلي" بيّن أهمية "شيراز" من خلال التالي: «من يتصفح ويتمعن سيرتها ورحلتها يجد عندها السخاء والعطاء، وروح العمل الصادق والوفي، كلما زرنا العيادة نجدها تنجز أو تصنع قطعة من الملابس؛ إذا كان لديها وقت ولو بسيط للراحة أو غياب المرضى. قدّمت لها العروض الكثيرة ومن أكثر من جهة في سبيل الحصول على منتجاتها، وأنا من بينها، واتفقنا على أن توزع منتجاتها على كل المحافظات السوريّة، والاعتزاز كبير بمثل هذه المرأة».