صفحات ملأى بالأحداث ومشوار حافل في الحياة، رسم لنفسه عنواناً مثالياً منذ نعومة الأظفار بالجد والكد، وحقق رصيداً اجتماعياً طيباً ليصبح أنموذجاً في منطقة "القامشلي".

السيّد "محمّد نوري نايف حسن" هو الشخص الوحيد الذي لا يتذكر ابتسامة وحيدة في طفولته، فلم يأخذ منها إلا العمل وكثرة التجوال هنا وهناك بحثاً عن عمل يليق بنعومة وبراءة الطفولة.

عام 2004 جاءتني دعوة للمشاركة في مهرجان دولة "الإمارات" ضمن الجناح السوري، ولم أتردد وشاركت بالمطعم السوري الذي كان باهراً بامتياز بدليل العديد من القنوات الفضائية التي وقفت عنده مع إجراء اللقاءات العديدة، حتّى إن ضيوف المهرجان أبدوا كامل الإعجاب بما قدمناه، فقد كان الهدف التمثيل المشرف، ولذات الأسباب كانت وجهتي بعد فترة إلى "السعودية"، وبعدها إلى "الكويت". وبعد انتهاء العمل والمهمّة كانت الوجهة إلى "القامشلي" فكانت أسرة تنتظر معيلها، وقبل أربع سنوات كنتُ في "أوروبا" وكانت الأمور ميسّرة من حيث العمل والإقامة، ولكن الحنين إلى الوطن والشوق لـ"القامشلي" قضى على كل إغراءات تلك الدول، فلم أفكر بمجرد حاجتي وحاجة الوطن إلينا، وحينها تحسنت أوضاعي المادية وكانت الرغبة في أن يكون كل حجرة تبنى وتعمر على بقاع منطقتي

بصمت عجيب بدأ بتلك الكلمات عن سيرته من خلال مدوّنة وطن "eSyria" وذلك بتاريخ 25 أيّار 2014، وتابع عنها قائلاً: «وُلدتُ في قرية "حلوى الشيخ" التي تقع على مشارف مدينة "القامشلي"، وتبعد عنها 12كم، وعندما فهمت الحياة وجدت من حولي أخاً مصاباً بالشلل وآخر مولعاً بالدراسة وحب العلم ويأبى التخلي عنه، ووجدتُ والداً معتكفاً على تدبير أمور ومصالح المجتمع، فكل حين يُطرق بابه لإنجاز عمل أو قيام صلح اجتماعي، وفي فترة قصيرة استسلم للواقع ولم يعد قادراً على تأمين مصاريف الأسرة، وكان موعدي حينها مع حمل الحقيبة والتوجه إلى المدرسة كتلميذ صف أوّل، ومن هنا بدأت قصتي عندما فرض عليّ القدر أن أكون عاملاً في الفترة الأولى وفي الوجبة الثانية أتجه إلى المدرسة، نعم وأنا تلميذ في الصف الأول كنت أتجول في أحياء مدينة "القامشلي" لأبيع الحمص الساخن للأطفال، وعندما يحين موعد المدرسة كنتُ أتجه بسرعة لأجلس على مقاعدها، ودوامي حينها كان بعد الظهر، كنتُ مضطراً للعمل لأنني أصبحتُ معيلاً للأسرة وعمري ست سنوات، ظلّ الحال مع هذا الواقع وهذا العمل حتّى الصف الرابع، وبعدها اتجهت إلى عمل آخر وهو محل للمشروبات الباردة، ومن ثم إلى مطعم، وبعد فترة في المقهى، ومن ثم في سوق الهال».

حفلات فنية للطفولة هدفه وضمن منشآته

جميع الأعمال الشاقة على الطفل مارسها ليقدم رغيف الخبز لأسرته يومياً؛ هذا ما بينه "محمّد"، وأضاف: «كنتُ عاشقاً للعلم، ولذلك كان حرصي ألّا أخسره، وخلال مشواري في المرحلة الابتدائيّة كنتُ من الأوائل في مدرستي، ومع انتقالي للدراسة في المرحلة الإعدادية بدأت العمل في السوق المركزي وبيع البضائع المتنوعة ومحافظاً على دراستي، والمهم مرّت سنوات الطفولة دون أن أجد ابتسامة وضحكة، مرت وأنا عامل وبائع، وكان هذا يتزامن بجلسات مطوّلة مع والدي يسرد عليّ قصص الماضي المعبّرة عن الخير والمحبة وتفاصيل كثيرة وشواهد قدمها لخير المجتمع، فعاهدت نفسي أن أكون خير خلف لخير سلف، تقدمت لآخر مادة امتحانية في شهادة التعليم الأساسي، وتوجّهت للعمل في العاصمة "دمشق"، لم أكن أفكر بالشوق والحنين لوالديّ وقريتي وأصدقائي بل كان همي إرسال مصروف الأسرة مع بداية كل شهر، وظلّ حالي هكذا متنقلاً بين "دمشق" و"القامشلي" لمدة 17 عاماً، ففي فترة الصيف أتوجه إلى العاصمة لأعمل في المطاعم، وفي الشتاء بمدينتي أبيع البضائع في السوق، توقف حلمي بمتابعة الدراسة بعد شهادة التعليم الأساسي وتجرعت العلقم والمرارة عند إعلان ذلك، وتفرغت للعمل فالمسؤولية كبيرة وأحمل هم الأسرة وحيداً».

امتزجت لحظات التعب والأرق بسعادة القلب وهناء الروح عندما وجد أسرته في سعادة، وعن ذلك ينثر علينا: «كان عمري 13 عاماً عندما كانت الوجهة للعمل في "دمشق"، ولم يكن قطع التذاكر متوافراً فذهبتُ واقفاً دون الجلوس طوال فترة السفر التي تجاوزت الـ15 ساعة، وواصلت ساعات الليل بالنهار بالعمل والجد حتّى إنني أحياناً كنتُ أنام ليوم متواصل دون أن أشعر من شدة التعب، ولكن بعد أشهر حققتُ إنجازاً لا يزال في ذاكرتي حتّى اليوم، لأنني استطعتُ شراء ثلاجة للتبريد ومروحتين للسقف وقمتُ بمرافقة تلك الأدوات الكهربائية عبر القطار من "دمشق" إلى "القامشلي" دون الجلوس على المقاعد لأنني لم أحظ بكرسي للجلوس، وزمن الوصول تجاوز الـ20 ساعة، علماً أنني كنتُ في قمة النشوة لأنه وللمرة الأولى يرى بيتي وأهلي أدوات كهربائيّة، وكما أسلفت وبعد الرحلة الطويلة التي قدرت بـ24 عاماً من العمل في مطاعم "دمشق"، بدأت بعدها جني ثمرة من ثمار البداية المرهقة جداً».

يقدم الابتسامة عندما يجد السعادة عند البراعم

أُولى علامات النجاح كما يقول: إنه كان خير ممثل في رحلاته خارج حدود الوطن: «عام 2004 جاءتني دعوة للمشاركة في مهرجان دولة "الإمارات" ضمن الجناح السوري، ولم أتردد وشاركت بالمطعم السوري الذي كان باهراً بامتياز بدليل العديد من القنوات الفضائية التي وقفت عنده مع إجراء اللقاءات العديدة، حتّى إن ضيوف المهرجان أبدوا كامل الإعجاب بما قدمناه، فقد كان الهدف التمثيل المشرف، ولذات الأسباب كانت وجهتي بعد فترة إلى "السعودية"، وبعدها إلى "الكويت". وبعد انتهاء العمل والمهمّة كانت الوجهة إلى "القامشلي" فكانت أسرة تنتظر معيلها، وقبل أربع سنوات كنتُ في "أوروبا" وكانت الأمور ميسّرة من حيث العمل والإقامة، ولكن الحنين إلى الوطن والشوق لـ"القامشلي" قضى على كل إغراءات تلك الدول، فلم أفكر بمجرد حاجتي وحاجة الوطن إلينا، وحينها تحسنت أوضاعي المادية وكانت الرغبة في أن يكون كل حجرة تبنى وتعمر على بقاع منطقتي».

أعطى فسحة كبيرة للطفولة لأنه يعرف قيمتها ولم يذق منها طعماً، قال عن ذلك: «قمتُ على الفور باستثمار منشأة ضخمة في "القامشلي"، وبدأت التواصل مع جميع الفعاليات التي ترعى الطفولة وخاصة من يهتم بذوي الاحتياجات الخاصة لإقامة حفلات فنية وترفيهية، وتوزيع هدايا وتجهيزات لهم ضمن تلك المنشأة التي لا أجد فيها الفرح إلا بفرح الأطفال، وهناك بشكل أسبوعي حفلة للأطفال مع أولياء أمورهم ومحبي الطفولة، ويومياً أتجول وأزور المحتاجين واليتامى والفقراء وأقدم لهم حاجتهم اليومية، وهناك العديد من الأسر التي تنتظر يومياً أن أطرق بابها، وأعطي دون أن أذكر ذلك أمام الخلق وكل ذلك يتم سراً، وكثيرة هي الحالات الاجتماعية التي تدخلنا فيها وقدمنا الأموال من أجل نثر الصلح والسلام بين المتخاصمين والمتناحرين والأمثلة عديدة، مناطق عديدة من المدينة كانت مهملة وبادرت باجتهاد ذاتي بنشر كل علامات الجمال فيها بزرع الأشجار والإنارة والسقاية يومياً، فمن أجل ذلك كانت العودة من بلاد الاغتراب إلى بلدي».

السيد "صالح برو" أحد رفاق دربه، تحدّث عنه: «أكثر من 10 سنوات وأنا معه، استثمر عدة مطاعم في "دمشق" وحولها إلى جنان، كان لديه أكثر من 250 عاملاً لم يكن يرضى إلا بتناول الطعام معهم جميعاً، فالتواضع سمة يعرفها عنه الجميع، وأحياناً كثيرة كان لديه فائض في العمال، ولكن عندما يطرق بابه من يريد العمل وخاصة ممن يكون طالباً جامعياً لم يكن يرفضه مهما كانت الأسباب، بل كان يقدم له مبلغاً إضافياً إلى راتب الجامعي، ويقول له من أجل المستلزمات الجامعية، واليوم هناك الكثيرون من الأطباء والمهندسين والكفاءات ممن عملوا في مطعمه وتربطه علاقات اجتماعية متينة معهم، أنشأ العيد من الاستثمارات في "القامشلي" في مناطق نائية تحديداً، وحتّى اليوم يتواصل ضمن الضوابط القانونية مع مجلس بلدية المدينة من أجل متابعة وبناء كل ما هو مميز وجميل في مدينته، والمنشأة التي يديرها اليوم من أرقى المنشآت في المدينة، حتى إنه وقف مع الفنانين المغمورين وساعدهم في إنجاز كليبات وإقامة حفلات على حسابه الشخصي، وقد جاءته عروض استثمارية عديدة خارج البلد وفي هذه الفترة ورفضها، علماً أن الشيء الوحيد الذي جمعني به هو العنوان الاجتماعي الرائع الذي في داخله، وهو الآن محط إعجاب المنطقة بكاملها وهو على لسانهم دائماً بل يذكرونه للاقتداء، فالأغلبية على علم بطفولته، وهو الآن يسخّر نفسه لسعادة الطفولة وسلامة ومحبة مجتمعه».