أخلص للماضي ولذكرياته الثرية في منطقته، فجال وتجوّل لعشرات السنين على القرى والبلدات التي تنتمي إلى محافظته، ليدوّن عن تراثها وتاريخها وفلكلورها.

مدوّنة وطن "eSyria"، وبتاريخ 16 كانون الثاني 2014، التقت الأستاذ "صالح حيدو"؛ أحد أهم من جدّ واجتهد في سبيل تدوين التراث السوري الكردي بكل ألوانه وأشكاله، فأثمرت سنوات بحثه إنجازات تخلدها كتب المكاتب وألسنة الأبناء، وفي مستهلّ حكايته المميزة والاستثنائية يقول: «أنا من قرية "حسي أسو" التابعة إلى منطقة "عامودا"، انتقلت منذ عشرات السنين لأسكن في مدينة "الحسكة"، ولدت ضمن عائلة كردية مرحة ومهتمة بالأدب والتراث، فتأثرت بالأدب وبدأت كتابة الشعر في العاشرة من عمري، فوالدي كان قارئاً متميّزاً، وفي تلك المرحلة كنا العائلة الوحيدة في القرية، التي تملك إذاعة (الراديو)، فمنذ الصغر بدأت قراءة الشعر بكثرة وبتشجيع من الوالد، وكانت للإذاعة الفائدة الجمّة للانطلاقة المبكرة، وقد تنوّعت عناوين القصائد التي كنت أكتبها، فمن الحنين إلى الوطن، إلى حب الحبيبة والتغزل بكل ما هو ساحر وجميل، وكل قصائدي كانت تكتب باللغة الكرديّة».

خلال أسبوع قمت بتأليف ثلاثة كتب عن التراث الكردي فكان الذهول هو عنوانهم، وضمن المعهد الكردي هناك لقبت بـ"المعهد الجوّال"، وكتبت لوحة عني هناك بـ"كبير الفلكلور"، تلك الرحلة عمرها عشرات السنين بدأت منذ عام 1970، ولمّا تنتهي حتّى الآن

دون أدنى شك فإن التراث هو تاريخ، ولا بدّ أن يدوّن دون نقصان أو زيادة، وهذا بحاجة إلى بحث طويل وجهد كبيرين، لم يوفر "حيدو" طاقة حياله، يقول: «آباؤنا وأجدادنا منذ آلاف السنين أظهروا أفراحنا وأحزاننا من خلال الفلكلور على شكل أغانٍ وملاحم، وكل أغنية من أغانينا الكلاسيكية ورقصة كردية لا بل وكل زيّ كردي له معنى تاريخي كبير، ويعبر عن حادثة وواقعة محددة ومرحلة تاريخية معينة، وعلى هذا الأساس بدأت جمع الفلكلور منذ عام 1970، لأنني تربيت في بيت فني وتراثي، ففي المناسبات كان الجميع يجتمعون -من شباب وفتيات ونساء القرية- في بيتنا يرقصون الدبكة ويغنون الأغاني والأهازيج الشعبية، وهذا ما أثر في نفسي كثيراً فحفظت من خلالها الأغاني التي يرددونها، فأعلنت عن مرحلة جديدة في حياتي وهي البحث والتدوين لذاك التراث العظيم، وكانت الانطلاقة من بيتي، وأبي شجعني كثيراً، فبدأت من بيتي وقريتي، فقد جمعت الأهازيج وبعض القصص المتداولة بين كبار السن، ثم جمعت الألبسة الفلكلورية وصورتها، وتجولت من منطقة إلى أخرى، وانتقلت إلى القرى المجاورة، ومن ثمّ إلى عشرات المناطق والقرى والبلدات، منها: "المالكية"، "عين العرب"، "عفرين"، "عامودا"، "القامشلي"، "إقليم كردستان العراق"، وبعض المناطق في "تركيا"».

الباحث يقدم محاضرة عن التراث في القامشلي

ويسرد عن بعض النقاط من رحلاته: «كنتُ أخرج أحياناً من المنزل ولا أعود إليه إلا بعد عام أو عامين، كل تلك الفترة أقضيها في التجوال، وأحياناً أقضي ساعات عديدة سيراً على الأقدام، وتحملت الجوع والعطش ورهبة الطريق في الظلام، لم أكن أحمل سوى القلم والدفتر وكاميرا التصوير، وفي إحدى المرّات طلبتُ من والدتي تجهيز "طبخة" معينة عند الظهر، وخرجت في الصباح، فلم أعد إلى المنزل إلا بعد عام، وجمعت في البداية الأغاني الفلكلورية والتاريخية، وأغاني الدبكات، وأغاني الصداقة، والأغاني التي تغنى في موسم الحصاد وجمع الحطب، من كافة المناطق، فلكل منطقة طقوسها الخاصة ولباسها الفلكلوري، وصنفتها حسب المناطق وتمكنت من جمع (4) آلاف أغنية، وتوثيقها وتحديد عمر كل أغنية، و(3) آلاف أغنية فلكلورية مع شرحها، وأحداثها ومناطقها، وشرحتها كلمة كلمة وحتى الأسماء الواردة فيها بحثت عن مصدرها وهويتها. وكتبت أغاني الأطفال التي يقولونها أثناء اللعب، وشرحتها وبلغ مجموع هذه الأغاني (1300) أغنية، فأنجزت وسجلت (100) قرص (سي دي)، بالصوت والصورة، حيث جمعت النساء والرجال الذين رددوا الأغاني معي ضمن جو تراثي، ولدي (1000) قصة كردية فلكلورية، و(500) حزورة كردية، و(63) كتاباً عن التراث والفلكلور، موجودة ضمن معهد التراث الكردي في "السليمانية" بإقليم "كردستان العراق"، إضافة إلى أربعة دواوين من الشعر، كنتُ أعاني كثيراً خاصة في المناطق التي أجهل عنها بالمعلومات، خاصة موضوع التقاط الصور من قبل الفتيات».

تمت دعوته إلى "السليمانية" من قبل زوجة الرئيس العراقي "جلال طالباني"، يتحدث عما أنجزه في تلك الزيارة: «خلال أسبوع قمت بتأليف ثلاثة كتب عن التراث الكردي فكان الذهول هو عنوانهم، وضمن المعهد الكردي هناك لقبت بـ"المعهد الجوّال"، وكتبت لوحة عني هناك بـ"كبير الفلكلور"، تلك الرحلة عمرها عشرات السنين بدأت منذ عام 1970، ولمّا تنتهي حتّى الآن».

والآن يقدم "حيدو" محاضرات في كل المناطق عن التراث الكردي، وقد كرم بجوائز عديدة، منها: جائزة الشعر عام 2005، وعام 2013 جائزة تكريمية لعديد الأعمال التي قدمها من قبل الرابطة الكردية، وفي العام ذاته جائزة الفلكلور، وشهادة تكريمية من قبل مركز "بدرخان" للدراسات.

الشاعر "زبير مخصو" تحدّث عن رحلة السيد "صالح حيدو"، بالقول: «من يتمعن سيرته يجد فيها جهداً صادقاً، ونتائج مثمرة، خدم بها تراث منطقة واسعة، سنواته كلها حتى اليوم يجعلها لرسالته الأدبية والتراثيّة، لديه طاقة هائلة لتأدية المهمة التي نذر نفسه لها، نحن من بين الآلاف الذين يعتمدون على أرشفته وتدوينه فيما عمل لأجله».