ربما أبعد اسمها الذي حافظت عليه قروناً من الزمن؛ صورتها عن مخيلة أطفال هذا الوقت، إلا أن شكلها ما زال محفوظاً في مخيلة كثيرين من الكبار، كيف لا وهي "العاجة" التي باح لها أطفال حقباتٍ فائتة بكل أسرارهم.

مدونة وطن "eSyria" ركبت آلة الزمن مع الباحث في التراث اللا مادي "عايش الحسين"، لتنتقل معه من تاريخ 1 تشرين الثاني 2014 إلى ما قبل عشرات السنين، ليروي لها تاريخ "العاجة" مع أطفال "الجزيرة السورية" قائلاً: «لم ينقطع إبداع الإنسان منذ بداية الخليقة وتعاقب الأنظمة الاجتماعية، لكنه مرَّ بمحطاتٍ كثيرة ولكل محطة أو مرحلة تفاصيلها وتحولاتها، وقد أفرزت هذه الأنظمة الاجتماعية حالات من الإبداع؛ بسبب الحاجة إلى شيء ما ومن منطلق "الحاجة أم الاختراع"، وهنا أخص الأم التي كانت ولا تزال تحاول إسعاد طفلها، وتخلق له الابتسامة بطرائق مختلفة، خصوصاً أنها تتدبر كل أمور المنزل جنباً إلى جنب مع رعاية الأطفال، فكانت "العاجة" الأمر الذي لا بد منه لإعانة ربة المنزل على إتمام عملها، فصنعتها الأم بعفوية، وصممت أشكالها بعدة طرائق تتناسب مع رغبة الأطفال وميولهم، وانتشرت هذه الصناعة في الريف فكانت هذه الدمية تصنع للفتيات على وجه الخصوص، وكان بنات القرية يتجمعن في مكان غير محدد، وغالباً ما يكون خارج المنزل أو في مكان قريب تحت نظر الوالدة، ليخترعن عالمهن الخاص والبسيط، لتلعب فيه "العاجة" دور البطلة في كل القصص التي تحاك، وتعد هذه اللعبة تقليداً ومحاكاة لحياة الكبار، ومن أوجه التقليد "الطبخ والغسيل والغناء والعرس"، وتعتمد الفتيات في اختيار اللعبة على طريقة صناعة "العاجة"، فالدمية العروس يجب أن تحاكي العروس يوم زفافها».

أنا من مواليد 1965، وقد عاصرت صناعة "العاجة"، حيث كانت والدتي تصنعها بطريقة بدائية قد تقتصر في بعض الأحيان؛ على ربط عدد العيدان بشكلٍ متقاطع، وتضع عليها قطعاً من القماش، وكانت فتيات القرية يجتمعن في مكان ما في القرية، تحمل كل واحدة منهن لعبتها، لتبدأ عمليات محاكاة الحياة العادية، أما هذه الأيام فقد اختفت مثل هذه الألعاب واستبدلها الأطفال بألعاب تباع في المحال التجارية، لكن فكرة اللعب فيها لا تختلف كثيراً عما كنا نقوم به سابقاً

يتابع: «جاءت التسمية من عدة روايات لكنه يرجع ترجيحاً إلى أخذه من العاج، وهو كناية عن النقاوة والبياض، وفي لسان العرب هي المسكة المصنوعة من العاج تجعلها المرأة في يدها، أما معجم الصحاح فقد أورد أن "العاجة" هي عظم الفيل، والأصل في التسمية هي دمية على هيئة امرأة بأحجام مختلفة، وترتدي الزي المحلي المزخرف، إلا أن عدداً من الأبحاث أثبتت أن المجتمعات السابقة، كانت تصنع الدمية من عاج الفيل، ومنه جاءت التسمية، وبسبب اختلاف الظروف البيئية والمناخية والاقتصادية ظهرت "العاجة" بهذه الهيئة في مجتمعاتنا، لكن "العاجة" المصنوعة من العاج لم تصل إلى هنا بل وصل معناها، ويقال في اللهجة المحلية "فلانة مثل العاجة"؛ كناية عن الجمال الزائد والقد الممشوق المقرون بالبياض الشديد، أما في مجتمعاتنا فنجدها مصنوعة من القماش والخرق وما شابه ذلك، وهي بعيدةٌ كل البعد عما سبق».

"العاجة" ببساطتها

وعن صناعة "العاجة" يضيف: «تتكون "العاجة" من قطعة من القماش بلونٍ غير محدد، وقطعة أخرى سوداء مطرّزة بأشكالٍ مختلفة، وقطع من الأقمشة البالية والرثة ويمكن استخدام الإسفنج، وعيدان من أغصان الشجر وسلك من الحديد وعصبة من حرير، وتقوم الأم بتفصيل "العاجة" على هيئة المرأة، ثم تملؤها بالأقمشة أو الإسفنج أو ما شابه ذلك، ثم تلونها وتزركشها وتنقش العيون والأنف والفم، ثم تضع الشعر والجدائل، وتعد هذه الحرفة التقليدية من أهم أنواع التراث الحضاري اللا مادي، ولهذه الألعاب دور بارز في توسيع مدارك الأطفال، فهم يقومون بالتعلم مع اللعب؛ لذا ينصح العلم الحديث بانتقاء ألعاب الأطفال بعناية فائقة، والابتعاد عن الألعاب التي تصنع لتمثيل مشاهد من العنف أو الرعب، وبالمقارنة بين "العاجة" المصنوعة يدوياً والألعاب العصرية نجد أن الفارق يتجلى في أن الأخيرة ذات منشأ غربي من حيث الصناعة واللباس، وهذا يخالف البيئة التي تربينا ضمنها».

ويختم: «وفي تراثنا الشعبي والغنائي نجد بعض الكلمات التي وصلت إلى يومنا هذا، من خلال ما تعلمه الأم لأطفالها أثناء اللعب بـ"العاجة"، وهي أقرب إلى الهدهدة، ومنها:

اقتران التراث بالحضارة

"نامي يا نويمة.... يا رگيبة الحميمة

اشتد اشتد... يا عويد الند

نامي يا أم طوگ... تا أغبيچ بالصندوگ".

مرحلة الخياطة في "العاجة"

لكن هذه العادات والتقاليد المجتمعية المتوارثة، بدأت تتلاشى بعد الانفتاح الاقتصادي على دول العالم، ودخول الدمى الصناعية التي تختلف كلياً عن عاداتنا وتقاليدنا، من حيث الصناعة والمظهر، وهذا ما يسمى بالتغريب الثقافي والفكري لشعوب هذه المجتمعات، وقد أوضح الباحثون والكتاب العرب ومنهم "سعد الطويسي" و"منصور الشقيرات" من "الأردن"، أن إعادة احياء هذه الصناعة هو إحياءٌ للتراث، وخلق منتج ثقافي محلي ينافس المنتجات المستوردة».

بدورها قالت السيدة "عايشة السالم": «أنا من مواليد 1965، وقد عاصرت صناعة "العاجة"، حيث كانت والدتي تصنعها بطريقة بدائية قد تقتصر في بعض الأحيان؛ على ربط عدد العيدان بشكلٍ متقاطع، وتضع عليها قطعاً من القماش، وكانت فتيات القرية يجتمعن في مكان ما في القرية، تحمل كل واحدة منهن لعبتها، لتبدأ عمليات محاكاة الحياة العادية، أما هذه الأيام فقد اختفت مثل هذه الألعاب واستبدلها الأطفال بألعاب تباع في المحال التجارية، لكن فكرة اللعب فيها لا تختلف كثيراً عما كنا نقوم به سابقاً».