في تاريخ محافظة "الحسكة" رجال أشداء كتبوا مسيرة حياتهم بالعرق والدم ليحيا الوطن عزيزاً كريماً، ومن هؤلاء "سعيد اسحق" البرلماني العريق القادم إلى "دمشق" من "ماردين"، "الوطني إلى حد الإدمان" بحسب قول "شمس الدين العجلاني".

كان لنا حديث مع ابنه المهندس "بسام اسحق" خريج أكبر جامعات الولايات المتحدة، الذي اختار العودة لأرض أجداده كي يكمل طريقاً بدأه والده في خدمة سورية، فحدثنا "بسام اسحق" بالقول: «كان جل ما يتمناه ويحلم به والدي هو أن يعود إلى سورية، وإلى بلدته الصغيرة "عامودا" التي احتضنته وشهدت أجمل سني شبابه، ولكن أطباءه في "أميركا" لم يسمحوا له بالعودة بسبب ضعف قلبه، كانت أمنيته أن يلف بالعلم السوري، كي يحتضن جسده حتى في الممات، وتحقق له ما أراد، لقد كانت سورية عشقه الأول والأخير».

رغم مشاغله الكثيرة والمهام الجسام التي كان يشغلها، كانت عائلته الصغيرة حاضرة في ذهنه وكان يمنحها وقتاً يقضيه مع أولاده، ويتابع دراستهم ويسأل عن مشاكلهم، كان مثالاً للأب الحنون المتفهم لأبنائه

ويتابع "اسحق" حديثه: «"سعيد اسحق المقدسي" من مواليد عام 1902 في قرية قلعة "الأمراء" من أعمال ولاية "ماردين"، وسكانها من "السريان"، تعلم في المرحلة الإعدادية القرآن الكريم وأركان الإسلام ومبادئه، وأتقن اللغات التركية والكردية والعربية إضافة إلى لغته الأم السريانية، انتقل وهو شاب مع الكثير من بني قومه إلى بلدة "عامودا" في الجزيرة السورية إثر رسم الحدود بين تركيا وسورية، تنقل في العمل في أماكن عده نتيجة الظروف السياسية، كافح واضطر أن يعمل عاملاً بسيطاً في مد سكة الحديد بين "حلب" و"العراق" بطعام يومه، ولقمة عيشه مع عدد من أفراد أسرته ليتقي شر العوز، ثم اشتغل بالتجارة وبيع الأقمشة».

المهندس بسام سعيد اسحق

وعن بداية دخوله المعترك السياسي يقول "اسحق": «عام 1928 دخل مجال العمل السياسي حين انتخب رئيساً للمجلس البلدي في مدينه "عامودا"، وفي عام 1931 فاز بالنيابة عن مناطق "الحسكة، القامشلي ودجلة"، وأعيد انتخابه في عام 1936، وفي عام 1943 تم انتخابه للمرة الثالثة في المجلس النيابي وفاز بمنصب المراقب،وعام 1949 فاز عن قضاء "القامشلي" وانتخب بتاريخ 12 كانون الأول 1949 مراقباً للجمعية التأسيسية، والتي تحولت إلى مجلس النواب، وانتخب بتاريخ 1/10/1951 نائباً لرئيس مجلس النواب، وكان أيضاً نائباً لرئيس مجلس النواب في مجلس 1953، وفي شباط 1954 وبعد استقالة رئيس الجمهورية ومغادرته البلاد أصبح رئيس المجلس النيابي قائماً بأعمال رئيس الجمهورية في حين تولى نائبه "سعيد اسحق" رئاسة مجلس النواب، وفي أجواء أزمة دستورية ووطنية سيطرت على البلاد اجتمع البرلمان يوم 27 شباط 1954 برئاسة "سعيد اسحق"، والذي تمكن بحكمته ودرايته من إقناع النواب بإعلان حل البرلمان لإفساح المجال أمام إجراء انتخابات نيابية، وخرج من الساحة السياسية بعد مجلس عام 1953، وحين حصلت سورية على استقلالها منح وسام الاستحقاق السوري لجهوده الوطنية».

ويتابع "اسحق" متحدثاً عن كيفية تولي النائب "سعيد اسحق" منصب رئيس الجمهورية: «قدم "حسن الحكيم" رئيس وزراء سورية 9 آب 1951 – 28 تشرين الثاني1951 استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية آنذاك "هاشم الأتاسي" نتيجة أزمة سياسية مع المجلس النيابي، الذي كان يرأسه "ناظم القدسي" ونائبه "سعيد اسحق"، فقام رئيس الجمهورية بمشاوراته مع الكتل البرلمانية لتكليف رئيس للحكومة، فاستقر الرأي على المرحوم "معروف الدواليبي"، شكل حكومته بتاريخ 28 تشرين الثاني عام 1951 استمرت هذه الحكومة أربعة أيام فقط، واجتمع ضباط الجيش ورفضوا هذه الحكومة، وتم اعتقال رئيس المجلس النيابي "ناظم القدسي" والوزراء و"رشدي كيخيا" زعيم حزب الشعب وعدد من النواب وأودعهم سجن "المزة"، وبعد يومين قدم رئيس الجمهورية "هاشم الأتاسي" استقالته إلى "سعيد اسحق" النائب الأول لرئيس المجلس النيابي وذلك بتاريخ 2 كانون الأول من عام 1951، وهكذا وبموجب الدستور وبما أنه أصبح رئيسا للمجلس النيابي، فقد أصبح مكلفاً بتسيير أمور رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد، ولكن بعد انتهاء الدوام الرسمي من يوم 19 كانون الأول سنة 1951 أصدر الجيش البلاغ رقم 1 من الإذاعة السورية بتعطيل الدستور، وحل المجلس النيابي، وتعيين الزعيم "فوزي سلو" رئيساً للحكومة، ثم صدر مرسوم بتشكيل الوزارة وانتهاء العمل بالدستور المعمول به في البلاد».

مع اعضاء مجلس النواب1954

وعن الجوانب الأخرى لشخصية "سعيد اسحق" يقول: «عملت معرفة والدي العميقة بالأديان المختلفة وإتقانه لغات عدة على معرفة مكونات الشعب السوري بمختلف أطيافه، واحترامهم وتقديرهم وأكسبته مصداقية في التعامل مع الآخرين، وساعده الانفتاح والاحتكاك بالثقافات على أن يكون ناجحاً في حياته، كما شكلت معاصرته ومزاملته لرموز النضال الوطني آنذاك أمثال "سعد الله الجابري" و"فارس الخوري" في نضالهم من أجل تحرير سورية، والذي شارك فيه جميع فئات الشعب على صقل شخصيته المنفتحة للجميع، والتي كان شعاره مبدأ الانتماء الوطني فوق كل انتماء».

ويتابع "اسحق" حديثه: «كان يلقب في "عامودا" بأبي الفقراء، حيث كان يرسل المعونات بشكل سري للفقراء، دون تفريق فقد كان يحب التنوع في المحافظة، ويعتبره أمراً إيجابياً ما جر عليه نقمة الفرنسيين، حيث وضع تحت الإقامة الجبرية عدة مرات وصودرت محاصيله الزراعية».

نوط الشرف

وعن "سعيد اسحق" الأب يقول: «رغم مشاغله الكثيرة والمهام الجسام التي كان يشغلها، كانت عائلته الصغيرة حاضرة في ذهنه وكان يمنحها وقتاً يقضيه مع أولاده، ويتابع دراستهم ويسأل عن مشاكلهم، كان مثالاً للأب الحنون المتفهم لأبنائه».

يقول عنه الباحث والأديب "صالح هواش المسلط": «كان رجلاً شجاعاً لا يهادن ولا يحابي على مصلحة الوطن والأمة، وكثيراً ما وقف كالطود شامخاً بوجه الدسائس والفتن والنعرات الطائفية التي كانت تغذيها "فرنسا"، وتوصل فيما بعد إلى مراكز عليا في الدولة إبان الكتلة الوطنية، حيث كان واحداً من أقطابها الكبار».

أما الأديب "عيسى فتوح" فيقول عنه: «هذا الرجل الوطني الفذ لعب دوراً هاماً في الحياة الوطنية والسياسية في سورية مدة نصف قرن تقريباً، فاشترك في النضال ضد المستعمر التركي ثم الفرنسي، ودخل السجن أكثر من مرة، حتى استطاع أن يصنع لنا الاستقلال الذي ننعم به اليوم، مع حفنة من أصدقائه المخلصين».