في بحر متلاطم من الألوان كثيراً ما يفقد اللون، ولكن سرعان ما تتوافد الألوان لتكون حاضرةً فيما يرسم، فتزهو بها الحياة، وتنطق اللوحات صخباً أخرسا يأخذك إلى عالم لا محسوس، هنا تلعب في نفس القارئ موجات لونية تدغدغ أحاسيسه فيتيه في بحر من التساؤلات...

"عيسى النهار" فنان يعيش حالة من التمازج مع لوحاته، موقع eHasakeh زاره في مرسمه فتحدّث قائلاً:

أنا اليوم بصدد التحضير لمعرض، لأنه من أهم حالات التواصل مع الجمهور والنقاد والمتابعين للحركة الفنية، وأتمنى أن يكون لهذا المعرض بصمةٌ فنية متميزة تحسب على أرشيفي الفني

«أرى أن الفن حالة جمالية تكمن في أعماق كل إنسان، وهذا ما يعطي شريحة واسعة من الناس حالة من التذوق الفني، حيث تبقى هذه الحالة نسبية فهي تختلف باختلاف الأمزجة، فالعمل الفني بما يحتوي من تداخلات لونية هو المحرض لإنتاج التذوق».

الوانه تدخل البهجة للقلوب

,وعن بداياته مع الفن يقول:«أنا أعتبر الفن موهبة تخلق مع الإنسان، قد تأتي ظروف لإظهارها وإلا فأنها ستبقى دفينة في مقبرة الواقع، أما أنا فكانت بداياتي مع الطفولة عند ما كنت أعبث مع الطين المتراكم على شواطئ الغدران، وعند تحريك المياه الراكدة كانت تتشكل لوحات تجريدية بكل ما تحويه الكلمة من معنى، ولا زالت تلك اللوحات مطبوعة في مخيلتي».

يتابع "النهار": «واظبت على الرسم في المدرسة وكنت من المتميزين، وأذكر وقتها أن التجربة الشخصية كانت هي الأساس، لدرجة أن كتبي كانت مغطاة بالرسوم حتى أنني لم أكن أترك مجالاً للكتابة، فعند الرسم تتلاشى عندي الحدود».

امرأة تعزف الحزن

*** هل اتجهت إلى الفن التجريدي مباشرةً؟

«بدأت بالرسم الواقعي ورسمت لوحاتٍ كثيرة، وهذا يعود لانطلاقتي الريفية المشبعة بحرارة الشمس وزرقة السماء، وامتزجت في لوحاتي لون الشجر وظلام الليل، وبدأت التجربة تتغير تدريجياً، إلى أن أصبح اللون هو الشغل الشاغل بالنسبة لي وأصبح الحالة المسيطرة على اللوحة، فغابت الأشكال لتتحول إلى رموز وإيحاءاتٍ لونية، أنتقل معها إلى عوالم موجودةٍ في الواقع ولكنها لا تشابهه، بل هي أقرب للضوء والليل والرمال والتراب، وشخوص متعبة غلفها لون تشكل من وهج الشمس الحارقة».

عيسى النهار

*** في أي حالة تتجه إلى المرسم؟

«سؤالٌ لطالما حيّرني فأنا أتساءل ومنذ زمن بعيد كيف أرسم، ولكني لم أجد له جواباً، إلا أنني أرسم عندما أكون في حالة مصارحة مع نفسي فأستبيح خواطري وأكشف ستر ذاتي، وأصعب ما أواجه كفنان هو غياب اللون من ذهني عند رغبتي بالرسم، وهنا تبدأ معركة طاحنة بين ذاتي ومحيطها بحثاً عن الألوان، وهنا لا أجد شفيعاً سوى إحساسي الفطري بطبيعة اللون، فأنا أشعر بحرارة اللون قبل حرارة الشيء الذي تكتسيه الألوان».

ويضيف:«أرسم في جميع الحالات من حيث محاكاة الموضوع ذاته، فأنا لا أستطيع القول أنني أرسم في حالات الفرح، سيما وأن الفرح لم يعد متواجداً كما كان في السابق، فنحن اليوم نقتنص الفرح، أما أنا فإذا كنت مضطراً للفرح فإني أجده في لوحاتي، فهي المصب النهائي لأحاسيسي بحيث أني أهرب من الواقع لأغوص في عالم أصنعه لنفسي، وأناغم ألوانه لتحارب الواقع الكئيب».

*** هل تنتمي إلى مدرسة معينة أم أنك تتنقل بين المدارس الفنية؟

«من منظوري فاللوحةُ يجب أن تناقش على أساسِ قيمٍ فنية، كالأسلوب المتميز للفنان الذي يحدد حطه أو هويته مقارنةً مع باقي التجارب، ويندرج تحت هذا العنوان عدة مقومات مثل اللون والفكرة والحلول التشكيلية المطروحة، ويدخل في الحلول التشكيلية الإحساس بالحجم والدرجات اللونية، والإحساس بالفراغ والتناظر والتوازن في تشكيل اللوحة».

*** هل تجد صعوبة في إيصال فكرة اللوحة للمشاهد؟

«بالتأكيد لن يتمكن الناس من قراءة لوحاتي بسوية واحدة، لأنها مرسومة بإحساس وهي تبعث على الإحساس، وخصوصاً عندما تثير تساؤلاتٍ كثيرة، إلى أين وصل الفنان في لوحته؟...

هل رسم وفقاً تترجم لوحاته لسان الحال، أم أنه رسم خيالاً محضاً، وهل للزمان والمكان حيزٌ في لوحاته ؟؟؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعتمد بعض الناس حالة التطهير كما يقال في علم الجمال، أم أنها حالة جديدة؟؟؟ وهذا يجعل من الصراع هو الحالة السائدة بين اللوحة ومتلقيها، فأعمالي تثير التساؤل والحوار وأحياناً الدهشة، وهذا هو المطلوب من اللوحة فهي تعتبر محرضاً فكرياً، وهذا ما أصبو إليه دائماً».

*** متى كانت التجربة الأولى؟

«كانت أول تجربة لي هي معرض فردي، أقمته في "الحسكة" عام 1989م، وكانت هذه التجربة تحاكي الواقع في عدة مجالات مثل المرأة والأرض والشجر، شاركت وقتها بـأربع وعشرين عملاً من الحجم الوسط، وكان الإقبال جيداً، وكانت القراءات دقيقة بسبب وضوح اللوحات».

*** التجربة الثانية في ثقافي "المزة"

«كان المعرض آنذاك مشتركاً، وقدمت فيه أيضاً لوحاتٍ واقعية، كان الجمهور هو نفس الذي شاهدت في "الحسكة"، فالقراءات كانت متقاربة لسببين أولهما أن اللوحات الواقعية لا تحتمل أكثر من قراءة، ثانيهما أن الفن حالة إنسانية ولهذا السبب لم أجد أي اختلاف».

*** التجربة الثالثة بداية الإنعطاف

«قدمت معرضاً مشتركاً في الثقافي الروسي "بدمشق" مع نفس المجموعة السابقة، ولكن الاختلاف ظهر في اللوحات، فقد كانت تميل إلى الفن التجريدي أكثر منه للواقعي، وأعتبر هذا المعرض هو الحد الفاصل مابين الاستغراق بالواقعية والهروب إلى اللون».

*** التجربة الرابعة "الأقرب لقلبي"

«قدمت هذه التجربة في ثقافي "الحسكة"، وكانت التجربة تعتمد على اللون في صياغة اللوحة، ولم يكن للواقعية أثر فيها، وما أدهشني هو إقبال ذواقة الفن، قدمت وقتها ثمانية عشر عملاً وكان هذا المعرض هو الأقرب لقلبي لسببين أولهما أنه أقيم في "الحسكة"، وكانت ألوانه تحاكي كل واقع المحافظة، والثاني هو إحساسي بالدهشة التي أبحث عنها في وجوه الناس وحالة التفاعل التي أشعرتني بالسعادة».

*** هل أخذت حقك كفنان؟

«كيف تقاس هذه المسألة؟...هل تقاس من حيث البعد المادي، أم أنها تقاس من حيث الشهرة، ومهما يكن فأنا عندما أرسم أو أنتج عملاً فنياً وأسعد به كثيراً، فهكذا أعتبر أن حقي وصلني كاملاً».

*** أين انتهى بك المطاف؟

«أنا اليوم بصدد التحضير لمعرض، لأنه من أهم حالات التواصل مع الجمهور والنقاد والمتابعين للحركة الفنية، وأتمنى أن يكون لهذا المعرض بصمةٌ فنية متميزة تحسب على أرشيفي الفني».

وبسؤالنا عما يتمناه كفنان قال: «أتمنى أن أرسم لوحة!».

الفنان "محمد علي مامو" يقول في "عيسى": «هو فنان من الرعيل الثاني، لديه أسلوب يميل فيه إلى المدرسة التعبيرية، فهو منذ بدياته أتقن فن اللون وكيف تكون لعبة التكوين في اللوحة، وللتوازن في لوحاته نصيب الأسد، يختار ألوانه بعناية فائقة وهو من أصحاب الألوان النظيفة، فهو يطرح ما في نفسه بواسطة الألوان، لذلك فهو فنان جريء».

هو حالة فنية مميزة هكذا وصفه الفنان "حسن صبيح" وأضاف:

«كل ما أرى لوحاته أعود بالذاكرة إلى الفنان والمدرسة اللبناني "وجيه نحلة" لأنه يعتمد نفس الحركة والقوة اللونية، وبرأيي أن "عيسى " ينتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة التي لا تلتزم بأية قواعد، ولكن من سلبياته أنه لا ينهي اللوحة التي قد بدأها، فهو يرسم أكثر من لوحة في آن واحد، وهذا الشيء قد يترك نقصاً في اللوحة، ومع هذا فأنا أعرف لوحاته دون أن تكون مذيلةً بتوقيعه، وهنا تكمن القوة وتسطع البصمة، فهو يترك أشلاءه على اللوحة، وأكثر ما أحبه فيه هو عشقه للفن».

الفنان التشكيلي "دلدار فلمز" قال:

«هو فنان أصيل وهادئ، لا يزاحم على التواجد والشهرة، يرسم بصمت بعيداً عن الصخب، أعتقد أن عيسى من الذين يتلذذون بالرسم أكثر من تلذذه بعرض اللوحة وإباحة قدسيتها، وهنا قد تكون عين المشاهد ذكيةٌ جداً فتعطيها قيمتها الفنية، وقد يكون العكس هو الصحيح، و"عيسى" من الفنانين الصادقين مع ذاتهم ومع لوحاتهم، فهو على الصعيد الشخصي من الأشخاص الذين يحبون بصدق، وإذا لم يحب فإنه يترفّع، عرفته عندما كان يرسم الواقعية بقوة، وتابعته على فترات متباعدة إلى أن وصل إلى رسم التجريدية التعبيرية إذا صح التعبير، تجريديته فيها من الروح الشيء الكثير، حيث تجد بين اللون والآخر شخوصاً معذبة تنتظر الفرح من ذات "عيسى"، وهو يرسم اليوم التجريدية المحملة بالحزن والألم، وسيأتي زمن يرسم فيه التجريدية المليئة بالفرح والسعادة، وما أعنيه أنه فنان لا يميل للقفزات الهوائية في تجربته، حيث يعطي لذاته الحق في أن تطفو على السطح.

يختم "فلمز": أنا من أشد المعجبين بتجربته الفنية، وأتمنى أن ألاقيه في معارض خارج محافظة "الحسكة"، وهذا ما أطلبه منه دائماً».