لليوم الثاني على التوالي تلملم الحاجة "خاتون محمد علي" أحفادها الصغار في أحضانها، لتسرد على مسامعهم الأغنية التاريخيّة القديمة عند احتباس المطر، فشتاء هذا العام يذكرها بالماضي البعيد عند تأخر هطول الأمطار.

"خاتون" وحسب ذاكرتها التي أعادتها سنين طويلة إلى الوراء، تتذكر تلك الطقوس الاجتماعيّة الجميلة التي كانت تقام أثناء تأخر هطول الأمطار، وتقول بأن المنطقة زراعية ومختلف حاجيات الأهالي متوقفة على نزول خيرات السماء.

بعد نهاية التنقل، تبدأ النسوة كبيرات السن، بطبخ ما تم جمعه، وتوزيعه على كافة أسر القرية أو القبيلة، وأحياناً تجتمع أكثر من أسرة على مائدة واحدة، دائماً كان الطبخ بالدرجة الأولى للأسر الأشد حاجة، والتي لا تملك شيئاً، ويكون ضررها من انحباس المطر كبيراً

تحفظ التسعينية أجزاءً كثيرةً من الأغنية الخاصة باحتباس المطر، التي مطلعها "أم الغيث" في ذلك الماضي البعيد جداً، وبناء على حديثها مع "eSyria" فقد أكّدت بأنها ومنذ الأمس تجمع أكثر من خمسة أطفال هم أحفادها، تغني هي ويرددون خلفها الأغنية على نيّة نزول الغيث، فالأرض عطشى والأنعام تنتظر والبشر والفلاحون خاصة ضاقوا وبدأ الخوف يراودهم لأن التأخير طال كثيراً، فهذه السنة من السنوات القليلة التي يتأخر المطر حتى شهر كانون الأول.

علي السباح

الأغنية كما تحفظ بعض مقاطعها تقول: "أم الغيث غيثينا..بلي بشت راعينا...راعينا هالمسكين...يلقط حطب ويعطينا" معنى "بلي: بللي"، معنى "بشت..عباءة كانت تصنع من وبر الإبل أو من صوف الغنم يرتديها الراعي".

مقطع آخر من الأغنية في ذاكرة الحاجة "خاتون" ترويها: "راعينا حسن أقرع..له سنتين ما يزرع..راعينا هالمسكين..يلقط حطب يعطينا..يلا مطر..يلا مطر..تشبع الحياوين (الحيوانات)..تشبع أم خنينة (النعجة) ..تكثر الدهينة (السمن العربي)".

تكرر الفتيات تلك المقاطع من الأغنية ومقاطع أخرى منها: "أم الغيث يا رية … عبي الحواية مية..أم الغيث زعلانة … تجيب المطر من عانه..يالله مطر يالله طين … تا تشبع الحواوين..تاتشبع أم خنينه … وتكثرنه هالدهينه".

الباحث "علي السبّاح" شرح وأعطى معاني الأغنية السابقة خلال حديثه مع "eSyria" فقال: "تفاصيل الأغنية عن راعي اسمه "حسن الأقرع" والإشارة إليه وهو يذهب لجمع الحطب القليل من مناطق بعيدة في سبيل إشعال النيران وتسخين المياه لتجهيز الطعام أو للمستلزمات الأخرى التي تحتاجها الأسرة، دليل على حجم معاناة انقطاع الأمطار".

من جانبه "صالح الحاج محمود" أحد كبار السن في بلدة ريف "اليعربيّة" 170 كم عن مدينة "الحسكة" يعطي إضافات أخرى عن طقس "أم الغيث" مما قاله: «عمري الآن 70 عاماً، لا تشفع ذاكرتي بتذكر تلك الطقوس والأجواء، لكن والدي نقلها لنا بدقة، تشاركه في نقل تلك الأحداث والأجواء والدتي، حيث أشارت إلى مشاركتها أكثر من مرة في سنوات مختلفة بتلك الطقوس، وصفتها الوالدة بالأجواء الاجتماعية قبل أي شيء آخر، فهي ومجموعة من أطفال قريتنا كانوا يتنقلون من منزل لآخر وهم يغنون أغنية "أم الغيث" الشهيرة، بالتزامن يرفعون الأيادي ويتوسلون المولى أن ينزل المطر، وتقول عن الجانب الاجتماعي: كل الأسر والأطفال يتشاركون في عمل خير وإيجابي، والكل كان متفقاً على تلك الرسالة الطيبة».

ينقل "صالح" تفاصيل قصة تلك الأغنية التاريخيّة "حسب كلامه"، إلى أحفاده، وقبل ذلك كان نقلها إلى أطفاله، وزوجته كثيراً ما غنت لأطفالها تلك الأغنية الشعبية، فهو يجد بأن الحفاظ على هذا الطقس أمر مهم، لكنه اختفى عن منطقتهم منذ سنين بعيدة، رغم أنه شهد في سنين كثيرة انحباس المطر، فهم يكتفون بالدعاء وإقامة صلاة الاستسقاء، ويأمل أن تعود تلك الاحتفالية الفنية والاجتماعيّة "كما وصف"، فهو يريد تربية أطفاله وأحفاده وأطفال قريته والمنطقة على نشر هذه القيم والعادات.

الأغنية بكل تفاصيلها ورغم السنين الطويلة التي تفصلنا عنها، مُوثقة ومدوّنة عبر الباحث "علي السبّاح" فالتراث الشعبي من أولوياته، وحفظه من أهدافه، مما يقوله عن أغنية "أم الغيث": «موروث شعبي لسكان البادية في السنوات التي يحصل فيها انحباس للمطر، أو يتأخر، تجتمع الفتيات الصغيرات دون سن البلوغ، هذه الفئة تحديداً لأنها تتميز بالبراءة والطفولة، لاعتقاد الأهالي أن مطلبها ودعواتها أكثر قابلية للاستجابة، تصنع الفتيات ما يشبه الصليب من الخشب، ويضعن عليه لباس، كأنه عروس صغيرة وتكون وسط الجموع، وهي ترمز "لأم الغيث"، ثم تتنقل الفتيات من منزل لآخر، أو بالأحرى من بيت شعر لبيت شعر آخر، في ذلك الزمن، لم تكن هناك إلا بيوت للشعر، وأثناء التجوال والتنقل يغنين "أم الغيث"، تقوم صاحبة البيت بإعطائهن نوعاً من أنواع المونة المتوفرة، قد تكون كمية من البرغل أو السمن العربي، وربما يكون عدس أو حمص وأي شيء متوفر، تمضي الفتيات غناء وتنقلاً وجمعاً للمونة دون التقيد بزمن أو وقت، حتى يشعرن بالتعب».

بالنسبة لجمع المونة، ووضعها في أكياس أو أدوات معينة لتلك المهمّة، يضيف عنها الباحث: «بعد نهاية التنقل، تبدأ النسوة كبيرات السن، بطبخ ما تم جمعه، وتوزيعه على كافة أسر القرية أو القبيلة، وأحياناً تجتمع أكثر من أسرة على مائدة واحدة، دائماً كان الطبخ بالدرجة الأولى للأسر الأشد حاجة، والتي لا تملك شيئاً، ويكون ضررها من انحباس المطر كبيراً».

وأكّد الباحث " السبّاح" أن عدداً قليلاً من عشائر البدو، وفي مناطق وقرى معينة بالجزيرة "السورية"، لا تزال تمارس هذا الطقس حتى يومنا هذا على الرغم من قدم الفكرة والطقس، وذلك عند احتباس الأمطار وتأخر نزوله، للقناعة بهذا الطقس، ولأنهم يريدون الحفاظ على تراث أجدادهم وآبائهم.

ويضيف أن تجهيز الطعام بعد ما تمّ جمعه من المونة، وإطعام الفتيات والأطفال الصغار الذين يشاركون بشكل دائم في تلك الطقوس، إشارة إلى أنهم جياع، ودون المطر سيزداد جوعهم ووجعهم، والإشارة إلى الراعي وتحديد اسم العلم، أيضاً إشارة إلى أنّ معاناة هذه الطبقة تكون مضاعفة، لغياب المطر، كل تلك التفاصيل تكون بحكمة ودقة.

تستمر جولات الفتيات الصغار على المنازل، وهن يغنين لأكثر من يوم، ربما أسبوع وأكثر، حسب ما بيّنه الباحث الشعبي " السبّاح" وأضاف: «الفكرة طرحها الكبار، وينفذها الصغار، وحسب ما تم توثيقه فإنّ طقس "أم الغيث" استمر لأسبوعين ومنهم من قال أكثر، كثير من المرات تتوقفن عندما تبدأ السماء بهطل خيراتها، في هذه اللحظة سعادة كبيرة تغمر المشاركات في الطقس، ويعتقدن بأنهن سبب الأمطار الخيرة والمباركة، ويبدأ المديح والثناء من كبار السن لهن، كحافز وتشجيع معنوي، وحتى يكن على استعداد لأي طارئ وجاهزات للمشاركة بذات الطقس في أي لحظة، أكثر من سنة تكررت هذه الطقوس في مناطقنا، حتى اليوم من لا يطبقها يحترمها ويحترم كل الطقوس الاجتماعيّة التي كانت تقام في قديم الزمان، فمن صنعها هم أجدادنا وأهلنا في ذلك الزمن».

نخبة من شباب اليوم، يسعون للتعرف على ذلك الطقس، واستطلاع كل التفاصيل عن "أم الغيث" منهم "كمال الحسين" فقد قال بأنه التقى بباحث شعبي في منطقته ببلدة "القحطانية" 120 كم عن مدينة "الحسكة"، وأخذ كل المعلومات المتعلقة بتلك الأيام وطقس "أم الغيث"، وصفها بلحظات جميلة وشيقة، لأنها من الطفولة، ويأمل لو شاركها في ذلك العمل الطيب، على الرغم من سؤاله أكثر من شخص في قريته عن تفاصيل "أم الغيث"، لكنهم يجهلون تفاصيلها، وأشار إلى أن بعضهم يتجاوز عمره الخمسين عاماً، وحسب رأيه لا يجوز لأمثال هؤلاء عدم معرفة هذا الطقس وغيره من الطقوس التي تعد تراثية وتاريخية قبل أن تكون اجتماعيّة.