يحتلّ التأمل حيّزاً كبيراً في لوحات "جبران هداية"، وبخطوط منسابة، وحركات رشيقة؛ استطاع التعبير عن الواقع بطريقة رمزية، مقتصراً بلوحته على المرأة الممزوجة بهالة من الضوء، ليكون أحد أهمّ رواد الفنّ التشكيلي في "سورية".

لا يتقدّم الإنسان إلا بالعلم، ولا يتطوّر إلا بالفن، ولا توجد فائدة من أيّ تقدم علمي ما لم يرافقه تطوّر الإنسان؛ فالفنّ بالنسبة للعلم بمنزلة الروح للجسد؛ هذا ما بدأ به الفنان التشكيلي "جبران هداية" حديثه لمدونة وطن "eSyria" التي التقته بتاريخ 17 تشرين الثاني 2016، وعن بداياته يقول: «للحديث عن البدايات، لا بدّ من العودة إلى تلك القرية البسيطة في منطقة "رأس العين" حيث ولدتُ؛ أذكر أنّني كنت أعيش في بيت صغير، والغرفة التي كنت أنام فيها كانت ترشح ماءً في فصل الشتاء، فكانت والدتي تضع سجادة على الحائط لتخفيف الرطوبة، وفي الليل تُعلق عليها قنديل كاز، كانت السجادة تعطي ألواناً ساحرة عند انعكاس الضوء عليها، وكنت أقضي ساعات طويلة من الليل أتأمل ذلك المنظر، كنت حينئذٍ في الرابعة من عمري، وأظنّ أن حبي للرسم بدأ منذ تلك اللحظة؛ لقناعتي بأن الفنّ يبدأ بالتأمل.

أرى أن المبرّر الوحيد لوجودي في الحياة هو الفنّ؛ علاقتي به قد تصل إلى حالة مرضيّة؛ لعشق ما بعده عشق؛ أعيش حالة من التأمل والروحانية مع لوحتي؛ فالفنّ هو اكتشاف عناصر دهشة جديدة لتستمر الحياة، وعندما أُقدم على إنجاز أي لوحة، فإنني أعتمد إحساسي الداخلي، والعقل يتدخل فقط لتنظيم الأمور من الفوضى ليس إلا، والباقي كله إحساس

أما الممارسة العملية للرسم، فكانت في عمر 7 سنوات، حيث كنت أُخبّئ مصروفي لأشتري به قلماً وكرتونة، وأقوم بنسخ الصور المرسومة على علبة "المسكة"، وعندما بلغت العاشرة تعرّفت إلى الفنان "فاتح المُدرّس"، الذي بدوره أبدى إعجاباً كبيراً بطريقتي في الرسم، وكانت هديته لي علبة ألوان؛ وهي أول وأغلى هدية تلقيتها حتى اليوم، إلى أن تعلّقت بالرسم، وأصبح لدي عشق له، اتجهت بالرسم إلى أسلوب كبار الفنانين العالميين، أمثال الهولندي "رامب تراند"، وأذكر أن أول لوحة بعتها كان ثمنها 35 ليرة سورية. وبعد حصولي على الثانوية العامة، دخلت كلية الفنون الجميلة، وهنا يمكنني القول إنها الخطوة الأولى في مشوار الاحتراف بالفن التشكيلي».

إحدى لوحاته تعبر عن صمود مدينة حلب

وعن علاقته بالفنّ، يضيف: «أرى أن المبرّر الوحيد لوجودي في الحياة هو الفنّ؛ علاقتي به قد تصل إلى حالة مرضيّة؛ لعشق ما بعده عشق؛ أعيش حالة من التأمل والروحانية مع لوحتي؛ فالفنّ هو اكتشاف عناصر دهشة جديدة لتستمر الحياة، وعندما أُقدم على إنجاز أي لوحة، فإنني أعتمد إحساسي الداخلي، والعقل يتدخل فقط لتنظيم الأمور من الفوضى ليس إلا، والباقي كله إحساس».

وعن مواده من أين يستقيها، والتقنية التي يخرجها بها، يتابع: «مواضيع لوحاتي كلها من الواقع؛ لقناعتي بأنني من دونه لا أملك حتى الحلم أو الخيال، لكنني أحذف من هذا الواقع أشياء وأضيف أخرى، لوحاتي عبارة عن فيلم بصري؛ عندما أنجزها أقول عبرها ما أريد قوله؛ لكن أترك الخيال للناظرين إليها؛ كلٌّ يفسّرها بطريقته؛ وهذا برأيي هو المناخ الصحي لعملي الفني، ومثلما أتمسّك بلوحاتي، أتمسّك بألواني على الرغم من قلة تنوّعها، حيث يطغى المشهد الرمادي؛ لأنني أشعر بأن هذا اللون يصلني بالعالم الروحاني الذي أبحث عنه بالرماديات، لكن هذا لا يعني أنني لا أدخل شيئاً من الحرارة في لوحاتي؛ فدائماً هناك بريق ضوء. ألواني المفضلة هي الزيتية، حيث أرسم على القماش مع بعض التجارب على الخشب».

مع الفنان التشكيلي علي حسين

وعن وجود المرأة بكثرة في لوحاته، يقول: «اللاعب الأساسي في لوحاتي هو الإنسان وما يحيط به؛ فهو هاجسي وكل الأشياء الأخرى هي من أجله، حيث جسدته من خلال المرأة؛ إيماناً مني بأنها الوطن والأمّ، وهي رمز الحب واستمرارية الحياة؛ لذلك أغلب الأوقات أرمز إلى الفكرة التي أريد إيصالها من خلال المرأة؛ أُحمّلها ما أريد قوله بتفاصيل صغيرة رمزية عَكستُها بعدة مدارس وحالات يمكن أن تكون "سريالية"، أو "رومانسية"، لا توجد مشكلة بالأسلوب، المهم أن يكون هناك انسجام وتصل الفكرة، والناظر إلى لوحاتي يرى أن الورود والزنابق لها وضع خاص؛ لأنني أجد فيها الطهر والشموخ، وبذلك تنسجم مع طبيعة المرأة، كما أضمّنها الحب والجمال والسلام، وهذا مع الاعتراف بقتامة الواقع وخاصة في هذه الأوقات، لكن دائماً أعكسه ببعض الأمل؛ فالإنسان لدي دائماً في حالة تأمل، والرسم هو الأقدر على ذلك؛ فالكلمة تحدّد قيمة ما نريد قوله، لكن الرسم يترك العنان للخيال يمشي معه».

وعن مشروعه الفني وأفضل الأعمال لديه، يتابع: «مشروعي الفني هو الحوار مع الذات؛ وهذا ما أسعى إليه من خلال الرسم، لوحاتي كأبنائي، لكن مدينة "حلب" تعني لي الكثير؛ لكوني قضيت فيها معظم وأجمل سنوات حياتي، وقد آلمني كثيراً ما لحق بها من خراب؛ لذلك أنجزت مؤخراً لوحة أسميتها "هكذا حلمت بمدينتي" عكست بها القلعة والبيوت القديمة، والفتاة الحلبية، لكن بكل شموخ، بعيدة عن الخراب والضرر الذي لحق بها».

بدوره الفنان التشكيلي "علي حسين"، يحدثنا عن تجربة "هداية" قائلاً: «هو أستاذ تتلمذ على يده كبار الفنانين التشكيليين؛ بدايته بالفن كانت كبيرة من خلال مشروع تخرجه "المقهى"، الذي أدهش كل من نظر إليه بالتقنية والحرفية التي أنجز بها، يمتلك تقنيات عالمية أهلّته ليكون مُعلم أبجديات الفنّ التشكيلي في "سورية" وخارجها. تتميز لوحاته بالتقنية المدهشة والواقعية السحرية وحركاته الرشيقة، التي جمع فيها بين الكتلة المغلقة والمساحات اللونية، حيث يجيد لعبة تشكيل الألوان التي تكاد تقتصر على الرمادية منها، والناظر إلى لوحاته يرى فيها حلماً وبريق أمل، وهي بصمته التي تميّزه عن باقي الفنانين».

من الجدير ذكره، أنّ "جبران هداية" من مواليد "رأس العين" في محافظة "الحسكة" 1946، خريج كلية الفنون الجميلة 1979، مُدرّس في كلية الفنون الجميلة في "حلب"، شارك في العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل وخارج البلد، مثل: "ألمانيا، وهولندا، وبولندا، ورومانيا"، حيث شارك فيها ضمن معرض عام 1982 بلوحة أطلق عليها "موناليزا سورية"، حائز على الجائزة الأولى في مهرجان "القطن"، ومتخصّص برسم الأيقونات.