هناك الكثير من الأسماء الفنية اللامعة التي أغنت المكتبة الموسيقية السورية بعطائها الفني؛ لكن بقيت أسماءهم طي النسيان إلا لدى قلة قليلة من المستمعين ممن تجاوزوا حدود السطحية في الوقوف عند تفاصيل أداء هؤلاء والنمط الذي أبدعوا فيه، ومن هؤلاء الفنان "رفعت داري".

حيث يتحدّث عنه الكاتب الأستاذ "داريوس داري" بالقول: «هو واحدٌ من القامات الفنية، اتخذ من غناء (لاوك والشر) نمطاً لفنّه الذي اشتهر به من خلال قوة صوته، لكن لم يحصد في نهاية عمره إلا مزيداً من الغبار المُتراكم على اسمه وضياعاً لنتاجه الفني الذي لم يوثّق منه إلا الجزء اليسير ليتداوله الناس لاحقاً دون أن يعرفوا صاحبه».

مكبرات الصوت في تلك الحفلة تعطلت فجأة ولم تعد تُصدر أية أصوات؛ حينها لم يتوقف "رفعت" عن الغناء وبفضل صوته القوي والعالي تابع ما تبقى من أغنيته دون مكبرات للصوت وسط دهشة الحضور

كانت أغلب أغاني "رفعت" مستوحاةً إما من تجربته الشخصية أو من قصصٍ واقعية سمعها من الناس؛ وعن ذلك يتابع "داري": «كان الفنان "رفعت داري" يذهب كل يوم مشياً إلى قرية "دودا"• التي تبعد عن قريته "حاصدا"• مسافة عدة كيلو مترات، ليغنّي للحضور القصائد على الدف؛ ويستمع لكبار السن المُخضرمين عن عراكهم مع الحياة وما رأوا وسمعوا من الويلات عنها؛ حيث كان يقتبس الكلمات عنهم ثم يُحوّلها لأغاني».

الكاتب "داريوس داري"

شارك في إحياء العديد من الحفلات الشعبية وأشهرها الحفلة التي شارك فيها مع كبار الفنانين أمثال "محمد شيخو" في "لبنان" بمناسبة عيد النيروز، وفي ذلك يؤكّد الكاتب "داريوس داري" قائلاً: «في عام /1971/م دعي إلى "لبنان" ليقدّم عدّة حفلاتٍ مع زملائه الفنّانين أمثال الموسيقار "محمد شيخو" والفنّان "محمود عزيز". بعد الانتهاء من الحفلة دعي إلى التّلفزيون الّلبنانيّ على الهواء مباشرة وأجرى معه الحوار المذيع "رياض شراره" وغنّى "رفعت داري" ساعة كاملة على الهواء من تلفزيون "لبنان"».

وبحسب ما قاله الأستاذ "محمد داري" ابن عم "رفعت" فإن: «مكبرات الصوت في تلك الحفلة تعطلت فجأة ولم تعد تُصدر أية أصوات؛ حينها لم يتوقف "رفعت" عن الغناء وبفضل صوته القوي والعالي تابع ما تبقى من أغنيته دون مكبرات للصوت وسط دهشة الحضور».

عازف الأورغ "علي داري"

رافق الفنان "رفعت داري" خلال مسيرته الفنية بعض الأسماء الكبيرة بالعزف على آلات موسيقية كما أنه تميّز بين أقرانه الفنانين بقوة صوته وقدرته على الغناء وفق مختلف المقامات الموسيقية، فيقول عازف الأورغ "علي داري" المهتم بالفلكلور الكردي السوري: «يبدأ "رفعت" غناءه من العلامة الموسيقية /فا/ وأحيانا /مي/ ثم يتدرج بقوة حتى يصل إلى العلامة /صول/ وحتى /لا/ وأغلب ألحانه التي ألّفها وغناها كانت من مقامات (البيات؛ عجم؛ الحجاز، نهاوند). وقد رافقه في العزف كبار الفنانين أمثال عازف البزق "سعيد يوسف" و"محمد شيخو" و"عبد القادر سليمان" وعلى آلة العود "محمود عزيز" أما العازف الأبرز الذي رافقه على آلة "الكمنجة"* فهو "موسى كنيه". يتميز برئة تجعله يحبس الأنفاس لتعطيه قوة واستمرارية في الغناء دون انقطاع لمدة /4/ أو /5/ ساعات متواصلة كما أنه يملك أُذناً موسيقية تساعده على ترديد وإعادة اللحن بمجرد سماعه مرة واحدة».

وخلال حديثه أشار الأستاذ "محمد رفيق" مُدرس التاريخ إلى أهم محطات حياة الفنان "رفعت داري" قائلاً: «ولد "رفعت داري" عام /1934/م في قرية (خربه كورمه) التابعة لمحافظة "الحسكة" ثم انتقل إلى قرية "حاصدا" لم يكن له عملٌ محدد فأحياناً يعمل سائقاً على جرار زراعي في فصل الشتاء وعلى الحصادة أثناء مواسم جني محصول القمح، وأحياناً يرعى الماشية، حتى أتته فرصة العمل في حقول النفط بـ"رميلان". بدأ الغناء في عام /1954/م بتشجيع من والده وشقيقه الأكبر بعد أن تأثر بهما ثم تفوّق عليهما فيما بعد، اتخذ "رفعت" لنفسه نمطاً غنائياً عُرف باسم (لاوك والشر) وهما نمطان من الغناء يعتمدان على غناء قصص واقعية بطريقةٍ سردية مُلحّنة؛ وتتضمن كافة عناصر القصة المكتوبة من مقدمة وحبكة ثم الخاتمة، في عام /1958/م غنى أول أغنية من تأليفه باسم (دينه) وفيها يروي بطريقةٍ غنائية جميلة قصة حبه مع فتاةٍ أحبها ولم يكتب لهذا الحب النهاية السعيدة، والأغنية الثانية باسم (حمدية) ومضمونها يحمل طابع العشق أيضاً».

الأستاذ "محمد رفيق"

ويضيف: «لم يكن "رفعت" يستمع إلى صوت مطربٍ محدد؛ بل يختار أفضل الأغاني وأحسن أداء دون الاهتمام باسم الفنان، وبعد أن يسمعها يبدأ بغنائها وفق أدائه وصوته الخاص والابتعاد عن تقليد صاحب الأغنية. ومن أبرز الأسماء (عبدلو؛ دمّر علي؛ سلو كورو؛ عزالدين هرم شدادي) وصل نتاجه الفني إلى أكثر من /100/ أغنية أغلبها من تأليفه كلمات وألحاناً وغناءً، لكن لم يتم توثيق إلا عدد قليل منها بسبب عدم وجود آلات تسجيل في تلك الفترة فضاع ما ضاع من ألحان ولم يبق منها موثقاً غير القليل يحتفظ بها آل "داري". توفي يوم 28 من شهر أيلول عام /1990/م تاركاً خلفه إرثه الموسيقي الكبير».

** هوامش:

• قرية "دودا" و"حاصدا" هما من القرى التابعة لمدينة "القامشلي" وتقعان على طريق "قامشلي- عامودا".

• "الكمنجة": آلة موسيقية وترية اشتق منها فيما بعد آلة "الكمان".