لم ينبغ وحده في منطقة "الجزيرة العليا"؛ بل شهدت المنطقة ولادات عديدة أمثال: "الرأس عيني"، و"الفارعة الشيبانية"، إلا أن "برديصان" نحى منحىً مخالفاً فعلا نجمه واتقدت جذوته، فكان العالم والفيلسوف والمنجم الذي لم نعرف من مؤلفاته الكثيرة سوى كتاب واحد.

مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 22 أيار 2016، سافرت في فضاء "برديصان" الواسع، والتقت "خلف الجراد" الباحث والصحفي ومترجم كتاب "ثقافة السريان في القرون الوسطى" للكاتبة الروسية "نينا بيغو ليفسكايا" التي سلطت الضوء على أعلام كبار عاشوا في تلك الحقبة، ومنهم العالم "برديصان"، فقال: «في فجر الثقافة السريانية ظهر كوكب مشع مزج التصورات والآراء الفلسفية لبلاد ما بين النهرين والنصرانية، هو "برديصان" الذي ولد في "الرها" سنة 154م ضمن أسرة علم وأدب، ونشأ في قصر ملكه "معنو"، حيث كان أليف "أبجر الثامن" أمير"الرها" وملكها المستقبلي، أما اسمه فمستمد من اسم النهر "ديصان" الذي يمر بـ"الرها"، وقد استطاع أن يلبي ميوله العلمية والفلسفية بفضل معرفته العميقة للغتين السريانية واليونانية، حيث كان متبحراً بالعلم السرياني والثقافة الإغريقية، أما معارفه الفلكية فقد استمدها من قدماء المنجمين والعقائد التنجيمية المختلفة».

كان "برديصان" شخصية ذات جاذبية لا تضاهى في عصره، جمع في شخصه عدداً من الجوانب غير القابلة للامتزاج، فهو العلاّمة في اللغتين السريانية واليونانية، وهو منجّم استوعب العلوم البابلية القديمة وآراء الكهنة الكلدان، وهو فلكي له جداول علمية في حساب حركة الكواكب، وفيلسوف أحاط بالنظريات والمذاهب المستمدة من الكتب والمؤلفات وكتب التأويل والتفسير الأفلاطونية المحدثة، وهو شاعر موهوب ومبدع ترك مدرسة كاملة من بعده

ويتابع "الجرّاد" شرح ما كتبه وألفه "برديصان" بالقول: «وضع "برديصان" كتباً شتى لم يبقَ منها غير كتاب "شرائع البلدان" الذي أملاه على تلميذه "فيلبس"، ويمثل صيغة فلسفية للمحاورة عن النفس، وهو على شكل حوار بين "برديصان" وتلميذه "عويذا"، ولقد أثرت الآراء الفلسفية ونظرياته وتعاليمه التنجيمية والفلكية على علماء القرون التالية، كما يعد كتاب "شرائع البلدان" نموذجاً معتمداً الحركة الأدبية والتأليفية، فالكتاب الذي يأخذ شكل المحاورات ليس إلا محاكاة لذلك التقليد الفلسفي الإغريقي القديم الذي يقف "سقراط" في مركزه، والفكرة المركزية التي تدور حولها فلسفة "برديصان" تتجسد في تأكيده الواضح على الإرادة، أي حرية الإنسان في عمل الخير والشر. لقد صب "برديصان" زبدة آرائه واعتقاداته الفلسفية في ذلك الكتاب، والمعلومات التي صبّها في الكتاب تستبق المصنفات الإغريقية اللاتينية بمدة زمنية لا تقل عن مئة عام.

الباحث والصحفي "خلف الجراد"

وينسب إليه كتاب عن "الهند" زاعماً أنه حصل على مواده من أعضاء البعثة الهندية الموفدة إلى "الرها". وفي سنة 216م استولى الملك "كراكلا" على"الرها" فهرب "برديصان" إلى "أرمينية"، حيث وضع هناك كتابه عن الملوك الآراميين. كما اشتغل بالحسابات الفلكية، حيث عُثر على جدول فلكي يحمل اسمه، يتضمن مراحل دوران الكواكب، كما ألف كتاباً في هذا المجال اسمه "المتحرك والساكن". ولا بد من الإشارة إلى سمة من سمات شخصيته المبدعة؛ ونعني بها الموهبة الشعرية، حيث ذكر أنه وضع مئة وخمسين نشيداً على طريقة "مزامير داوود"، ضمنها آراءه اللاهوتية ولقنها لشباب "الرها" بعد أن وقعها بألحان عذبة تخلب الفؤاد، وفي الواقع لم يبق شيء من أشعاره، لكنها عرفت بواسطة الكتاب المتأخرين، ونذكر منهم القديس "مار أفرام السرياني"».

وختم بالقول: «كان "برديصان" شخصية ذات جاذبية لا تضاهى في عصره، جمع في شخصه عدداً من الجوانب غير القابلة للامتزاج، فهو العلاّمة في اللغتين السريانية واليونانية، وهو منجّم استوعب العلوم البابلية القديمة وآراء الكهنة الكلدان، وهو فلكي له جداول علمية في حساب حركة الكواكب، وفيلسوف أحاط بالنظريات والمذاهب المستمدة من الكتب والمؤلفات وكتب التأويل والتفسير الأفلاطونية المحدثة، وهو شاعر موهوب ومبدع ترك مدرسة كاملة من بعده».

الباحث في التاريخ "إلياس ميرو"

"إلياس ميرو" الباحث والمهتم بالشأن التاريخي قال: «لقد بنى "برديصان" علومه الطبيعية والفلكية على المعتقدات وعلى العلوم الفلكية التي تم بلوغها في بلاد ما بين النهرين "بابل" و"الإسكندرية"، وكان الفرق بين هاتين المدرستين ضئيلاً، وحصل تأثير علمي متبادل إلى درجة الامتزاج الكامل، وتوحدتا في نظرية عامة ارتكزت في صورة معتقدات تنجيمية معينة، وتراكمت مقولاتها على مراقبات طويلة، امتدت إلى قرون كان يقوم بها كهنة بابل وحكماؤها لحركة النجوم والأفلاك التي تؤثر في حياة الإنسان وحرية معتقداته والإرادة التي يتمتع بها، فكان "برديصان" وأتباعه ينهلون من هذه النظرية وتطبيقها على المؤلفات، لقد كان يتمتع بسعة اطلاع وعلم غني ومتنوع، إضافة إلى ثقافته السريانية الواسعة».

يذكر أن "برديصان" توفي سنة 222 ميلادي.