جسدت معاناته مع الفقر عنواناً بارزاً لقصائده التي تروي قصة شاعر لم يتوار عن أنظار مجتمعه يوماً نتيجة فقره بل كان دائماً متحدياً له مفاخراً بما وصل من مرتبة علمية، إنه الشاعر "مصطفى الحدري".

مدونة وطن eSyria التقت بتاريخ 9/6/2013 الشاعر "رضوان السح" الذي يعود له الفضل في جمع أشعار شاعرنا "الحدري" بعد وفاته في ديوان حمل نفس اسمه "ديوان الحدري" والذي تحدث لنا قائلاً: «عرفت الشاعر "الحدري" في أواخر السبعينيات حيث عمل مدرساً في إحدى ثانويات حماة، وكنت طالباً لديه وقامت علاقة خاصة بيني وبينه في تلك الفترة من خلال اهتمامي بالأدب وعرض نتاجي عليه ليبدي فيه رأيه وتوطدت الصداقة فيما بعد وجمعتنا زمالة العمل الصحفي قرابة سنتين في جريدة الفداء في بداية الثمانينيات قبل أن ينتقل للتدريس في جامعة البعث في حمص، وكنت أحرص دائماً على أن تكون علاقتنا علاقة التلميذ بأستاذه وكان هذا يسعده».

قصائد "الحدري" جميعها اعتمدت من الناحية الشكلية التفعيلة وأعني بــ (قصيدة التفعيلة) البنية الجديدة للقصيدة العربية

ويتابع: «ولد الشاعر الدكتور "مصطفى بن محمد الحدري" في 5/2/1945 في حي شعبي من أحياء مدينة حماة، لأسرة فقيرة وكان والده يعمل في صناعة العُقل (البرمان) وكان الطفل مضطراً للعمل لمساعدة أسرته فعمل في بيع المثلجات المحمولة، واقتنت الأسرة بقرة فكان يبيع حليبها، ورغم شظف العيش استطاع أن يتابع دراسته، تأثر "الحدري" كثيراً بقسوة الحياة التي عاشها وظهر ذلك جلياً في شعره ولاسيما بعد فقده شقيقاته الأربع نتيجة الفقر والجهل والمرض وقد ذكرهن في قصائده، أتم شاعرنا مراحله الدراسية في مدينة حماة، ونشأ على العموم نشأة دينية عززتها دراسة الإعدادية في المدرسة المحمدية الشرعية، دخل قسم اللغة العربية في جامعة دمشق عام 1964 وأقام في غرفة بالمجان في جامع "الخياطين"، وشاءت المصادفة أن تجمعه هناك بالشاعر العراقي الكبير "أحمد الصافي النجفي" الذي أثر تأثيراً بالغاً في شخصية "الحدري" وفلسفته للحياة. حصل "الحدري" على إجازة في الأدب العربي عام 1968 وحاز دبلوم الدراسات العليا عام 1976 وفي عام 1981 حاز درجة الماجستير بتقدير ممتاز عن رسالته "أبو علي الفارسي وتحقيق مسائله المنثورة"، وحاز درجة الدكتوراه بتقدير امتياز عن أطروحته "ابن سيده في جهوده النحوية والصرفية" وعمل مدرساً في قسم اللغة العربية في جامعة البعث، وفي عام 1992 عمل مدرساً في جامعة "قاريونس" في ليبيا حتى وافته المنية باكراً إثر مضاعفات مرض السكري في المشفى العسكري بدمشق بتاريخ 27/6/1997 تاركاً العديد من الآثار المطبوعة والمخطوطة في تحقيق التراث والدراسات اللغوية والعديد من المشاريع التي لم تنجز».

رضوان السح

لم ينشر "الحدري" ديواناً في حياته وآثر الابتعاد عن المنابر زهداً فيها إذ لم يكن من الشعراء الباحثين عن الشهرة وأقدم قصيدة عثر عليها كانت بتاريخ 1963 ومطلعها: "ضميري جد مكتئب / وروحي في يد النوب" وهي قصيدة ساخرة هجا فيها "الحدري" أحد الموجهين في الثانوية التي كان طالباً فيها.

لإزاحة الستار عن تجربة "الحدري" الشعرية التقينا الدكتور "موفق السراج" أستاذ اللغة العربية في "الجامعة الوطنية الخاصة" الذي تحدث لنا عن شاعرنا قائلاً: «شعر "الحدري" هو صورة عن حياته بأحداثها اليومية واستطاع بما لديه من إحساس مرهف أن يرصد المحيط الذي حوله بعين مفتوحة على الدوام فكان الجهل الذي يسيطر على من حوله يؤرقه ويؤلمه فأحس بغربة قاتلة وفيها يقول: "أحس بغربتي في كل شيء/ فما أبغي لإنسان مزارا / وما نفع المودة في أناس/ عرفتهم على دنسٍ غيارى؟"، أضف إلى ذلك أنه عاش في مجتمع تسوده المفارقات والعادات السيئة، فكانت ثورته على الطبقية إلا أنها ثورة عاطفية ساذجة نحّت العقل جانباً ولم تجعل له أي سلطان في حل المشكلة وتأتي قصيدة "حارتنا" من قصائده لتجسد مفارقة طبقية بين حيين متجاورين حي الشاعر "الحدري" الذي يسكنه أناس أقض مضاجعهم فقر قديم لا يرحم يؤازره جهل مطبق يعصف بأصحابه (والناس في حارتنا الوضيعة/ كلامهم عريض/ وكل شيء فيهم بغيض/ لكنما جناحهم مهيض/ عاشوا على الهوان من دهور/ ويفتلون دائماً شوارب الغرور)، وحي آخر في الطرف المقابل تسكنه الطبقة الغنية (والناس في البياض والشريعة/ نساؤهم حسان/ يسير خلفهن أجمل الولدان/ ويشبهون إخوتي/ لكنهم سمان)، وتتعمق الرؤيا عند الشاعر "الحدري" أكثر فأكثر لتنتقل من مهاجمة الأغنياء إلى وصف مأساوي وصادق لفقره الذي حدب عليه فنتج عنه جوع كافر لا يطاق، وهنا بات الفقر حقيقة أحس بها بل اكتوى بنارها فعبّر بصدق عن واقع معيشي، يقول في قصيدة "ملحمة الجوع": (لا أستحي من ذكر ماضيّ الكئيب/ أنا ذلك الطفل الذي باع الحليب/ قد جعت في عهد الطفولة/ وقضيت أياماً تطول على لقيمات قليلة / مازلت أسمع صوت أمي / ريان بالأحزان/ نام الصغار بلا عشاء/ العيد جاء ولا كساء / ويلفنا برد الشتاء / ليزورنا طيف يقول: جعتم كما جاع الرسول).

موفق السراج

وإذا انتقلنا من موقف الشاعر الثوري على واقعه الى موقفه السياسي في المنطقة العربية آنذاك نجده يتفاعل مع الأحداث ويجلد بسوطه نكسة حزيران عام 1967 فتلف أشعاره الحزن واليأس والتشاؤم: "أمتي أصبحت شر الأمم/ ليس في وسعك غير الكلم/ تحسبين النصر في أغنية/ تتباهى بعقيم النغم".. وتأتي حرب تشرين التحريرية عام 1973 ليسترد الإنسان العربي كرامته المهدورة ويشارك الشاعر "الحدري" فعلاً وقولاً في أشعار غلبت عليها الخطابة والحماسة للنصر المبين: "وإن تشرين كانت ثأر سابقة/ فما يدوم حزيران ولا الضجر/ لم تخش رتل المنايا وهي مقبلة / ومن شمائلك الإقدام والحذر"».

ويختتم الدكتور "سراج" حديثه بالقول: «قصائد "الحدري" جميعها اعتمدت من الناحية الشكلية التفعيلة وأعني بــ (قصيدة التفعيلة) البنية الجديدة للقصيدة العربية».

ديوان الحدري

الجدير بالذكر أن شاعرنا "الحدري" حقق عدداً من المصنفات التراثية منها: "رسالة الاشتقاق" "لابن السراج"، و"تذكرة الموضوعات" "لأبي الفضل المقدسي"، و"المتجر الرابح" "للحافظ الدمياطي"، وكتاب أعده من أقوال "النجفي" وآرائه في الأدب والدين والسياسة سماه "مجالس الصافي النجفي".