الساخر هو عبقري في التقاط صورة مجتمعية وتحويلها في قالب فكاهي ناقد، لكنه في كثير من الأوقات انعكاس لواقع مؤلم فالضحكة تخرج رغم النزف الذي يقدمه الشاعر.

مدونة وطن eSyria التقت مع نموذجين من شعراء "سلمية" هما الشاعر "منذر شيحاوي"، والشاعر "غازي قشمر" بتاريخ 25/5/2013 فتحدث "شيحاوي" عن تجربته في كتابة الشعر الساخر في هذا اللقاء:

إن المتابع لشعر "منذر" يعي جيداً الهم الاجتماعي الذي يحمله في كتاباته، إن التعبير الفني بالكلمة هو جزء من روحه الفنانة الحساسة التي يعبر عنها بالرسم، وفيما يلي نموذج من قصيدته الناقدة الساخرة الباكية "الميت الحي" قال فيها: لم يبق عندك ما تبيع لتاجر/ إلا الفراش وشرشفاً ولحافا ماذا سأقرأ في كتاب موظف/ يشكو الفجيعة محتوى وغلافا ليس الغرابة أن تموت بجلطة/ إن الغرابة أن تظل معافى

  • هل "منذر شيحاوي" تابع للقصيدة الساخرة، أم هي مطواعة يديرها كيف يشاء؟
  • الشاعر "منذر شيحاوي"

    ** المسألة تكمن بالاختيار المنسجم مع الحرية، وبهذا المعنى تصبح القصيدة تابعة لصاحبها باعتبارها انعكاساً لعالمه الداخلي، وجنى مخزونه المعرفي من جهة، ومدى أجنحة الخيال لديه من جهة ثانية، وهناك أشياء تبدو أنها عصية على التحديد أو التوضيح.

  • هل تكتب لتتخطى واقعك المؤلم، أم تحاول القبض على المأساة من خلال السخرية منها؟
  • الشاعر "غازي قشمر- أبو الظل"

    ** الشاعر هو إنسان يعيش في واقع زاخر بالمتناقضات، وحين يطفو الحزن على الفرح، والشقاء على السعادة، ينبجس الحلم الطافح بالأسئلة، وما السخرية إلا لون من ألوان التعبير عن واقع ما، هو واحد من أسئلة تحمل همّ الواقع، وهاجس الشاعر أن يلتقط بأسلوبه الخاص، حالة وجع تستبد بالناس والأشياء، ليس بقصد تصويرها فنياً فحسب، بل رفض موضوعي، وإدانتها أخلاقياً.

  • هل تعتقد أن جمهور الشعر الساخر واسع، وماذا يحتفظ في ذاكرته متى خرج من دائرة الاستماع إلى الشعر وعودته إلى واقعه؟
  • ** لا شك أن الدعابة، الطرفة، والمزاح لها وقع محبب في النفس حتى في أعلى درجات الترف، ولها سحرها وجاذبيتها في إشاعة البسمة والرضا، ولكنها تكون أكثر التصاقاً في الذاكرة وأبعد تأثيراً في النفس، حين تحمل همّاً إنسانياً واحتجاجاً على الظلم ورفضاً لاعتداء سافر على حق هذا النوع من السخرية لا ينمو إلا في ظروف من مشتقات الجحيم.

  • ماذا يحتاج الشاعر من أدوات فنية كي يبدع في كتابة الساخر من الشعر؟
  • ** في أكثر الأحيان تجذبني كتابة نص بسبب استفزاز عابر وفج يستدعي استفزازات باتت أولوية، وفي حالة الكتابة في هذا اللون ألجأ إلى اللغة الواضحة السهلة، والأقرب إلى فهم الجميع على تعدد مستوياتهم الثقافية، ولكنها تحافظ في الوقت نفسه على جمال بنائها الفني بعيداً عن التكلف والتصنّع والتقعير، وهذا الأسلوب يناسب طبيعتي بقدر ما يناسب طبيعة هذا الفن.

    ــ قصيدة "البنك العقاري" كتبها الشاعر "منذر شيحاوي"، قال فيها:

    لما سمعت بأن حضرة جاري/ قد شمّع الخيطان صوب الباري

    طارت حواسي الخمس من أعشاشها/ وسقطتُ مغشياً بباب الدار

    لم أدرِ كم بصلاً وثوماً قشروا/ وتراكضوا للفركِ في منخاري

    فصحوتُ أشهق بعدما دلقوا على/ وجهي بسطلِ الماء كالزنطاري

    لو أعمَلوا هذا العلاج لجارنا/ سينطّ من تابوته إجباري

    حتى إذا صَحْصَحْتُ بعد مشقة/ وبدأت أجمع زائغ الأفكار

    قفز الفقيد على مرايا خاطري/ قَفْزَ الشرارة من مواقد ناري

    فصرخت يا ويلي بكفٍ أمسكت/ شعري وكفٍ أمسكت بإزاري

    صاحوا كفا هبلاً بجاهِ المصطفى/ عيبٌ عليك تَعُرُّ مثل الضّاري

    أمسك بنفسك كالرجال ولا تكن/ رخو العريكة في المصاب، حذاري

    قمْ، و(اشطف) الوجه المعفر بالقذى/ وانفض عن البنطالِ رطل غبار

    واهدأ أمام الناس ويحك واحترم/ روح الفقيد وحكمة الأقدار

    فسألت: يا الله كيف؟ وأدمعي/ تجري على خدي كالأمطار

    من أين أهدأ يا شباب تخيلوا/ وأنا الكفيل له ببنك عقاري؟.

    الأستاذ "حسين الجندي" ومن خلال دراسته حول الحركة الأدبية في مدينة "سلمية"، تناول الشعر الوجداني الساخر الذي تمتع به "منذر شيحاوي"، قال فيها: «إن المتابع لشعر "منذر" يعي جيداً الهم الاجتماعي الذي يحمله في كتاباته، إن التعبير الفني بالكلمة هو جزء من روحه الفنانة الحساسة التي يعبر عنها بالرسم، وفيما يلي نموذج من قصيدته الناقدة الساخرة الباكية "الميت الحي" قال فيها:

    لم يبق عندك ما تبيع لتاجر/ إلا الفراش وشرشفاً ولحافا

    ماذا سأقرأ في كتاب موظف/ يشكو الفجيعة محتوى وغلافا

    ليس الغرابة أن تموت بجلطة/ إن الغرابة أن تظل معافى».

    وفي لقاء مع المسرحي والشاعر الساخر "غازي قشمر" والشهير بـ"أبي الظل" لأنه ساخر من حياته بفطرته التي جعلت منه محط أنظار الكثيرين، رغم أنه عاثر الحظ، يعيش على هامش الحياة- كما يقول:

  • كيف يقدم "أبو الظل" (نهفاته) المضحكة كما يحلو لك تسميتها؟
  • ** أنطلق من ذاتي، حياتي الملأى بالانكسارات والخيبات، هي مادة خام لكي أقول ما أقوله في قالب ساخر، عندما أسخر من الشيء يعني أنني أحتقره، أو ربما أحاول التغلب عليه ولو بالكلام.

  • ما ميزة ما تكتب من شعر أو نثر ساخر؟
  • ** متى وصل إلى المتلقي اكتسب ميزته التي تمنحه هذا اللقب (ساخر)، هذا الوصول يتجلى في مدى تفاعل هذا المتلقي مع ما يسمع أو يرى، الكلمة التي لا تترك تحولاً لدى هذا المتلقي تفقد قيمتها فور النطق بها، سوى أنها تحدث بعض الجلبة السعيدة في المكان الذي قيلت فيه لا أكثر. أرى أن مهمة الشعر الساخر- أو أي نوع أدبي أو فني في هذا الإطار- هو تحسين الحياة والتخفيف من قسوتها.

    * من أنت في هذا المجال؟

    ** أنا شاعر مغمور، كئيب، مأساتي في هذه الدنيا أنني خالفت كل ما هو قاعدة ثابتة، وهناك ما يدعو أن أكون ساخراً، لا بقصد الكتابة، بل تشفياً من نفسي أولاً، وممن يحيطون بي، في الواقع ليس لي فضل في السخرية، أعتقد أنها مرض وليست موهبة، ولكن لا شك أن لها أبجديتها الخاصة.

  • هل نمط العيش هو الذي يحدد كنه الشاعر الساخر؟
  • ** هناك مقولة لدى العامة مفادها (شي بيبكّي من الضحك، وشي بيضحك من البكي)، الحياة كفيلة بتقديمك للناس على نحو فرضته الظروف، ودائماً كنت أقول، وما زلت: "كلكم تعرفون من أنا، إلا أنا".

    ــ في قصيدة نثرية "فندق في جهنم" كتب "أبو الظل" معاناته مع نزيل شريكه في غرفة، لم يدعه ينام لشدة شخيره، يقول فيها:

    في فندق مُشقَ في جهنم/ في فندق نمتُ وما نمتْ/ ساعات مرت كالدهر/ رددت مراراً: لا تشخر/ لعجوز يمعن في الشخر/ إنصاف هذا أن يبقى/ بلعومك يعوي للفجر/ يا كافر.. ذبت من النعس/ وسهادي نومك جنّنه/ فبعرض حليمك يا شيخي/ أخِوارٌ جئت تلحّنه؟.

    الأستاذ الصحفي "مصطفى علوش" كتب عن "أبو الظل" في جريدة تشرين، قال في بعض مما كتب: «... نعم كأنه أحد أبطال الروائية "أحلام مستغانمي"، "أبو الظل" يعرف البلد جيداً، ولعله ذاكرة حقيقية لم تتلوث ولن تتلوث، تسمعه يتحدث عن البطولة من موقع الضعف الإنساني، ومن موقع العاشق الخائب، وتسمعه يتحدث عن الإنسان ولكن من موقع الغريق الذي يتعلق بالحياة، وفي كل ما يكتبه ثمة نفس ساخر يذكرك بعالم "تشيخوف" المسرحي والقصصي، كما يذكرك بعالم "عزيز نيسن" هذا المبدع الكبير الذي رسم العالم بيدين عارفتين بأسرار الإنسان والقهر الإنساني».

    ــ في معركة "أبو الظل" مع ألم في "ضرس العقل" قال فيها:

    ضرس يفكر كيف يقتلني/ وأنا أفكر كيف أخلعه

    إذ لا اتفاقاً بيننا أبداً/ أين الطبيب وأين "مخلعه"

    إن جئت بالحسنى أفاوضه/ ما صفقة الخسران تردعه

    أو جئت بالموس أهدده/ والله ما هذا يفزعه

    يا ضرسُ مهلاً سوف تهزأ بي/ وتقول من هذا ومن معه

    مزربة الحداد ناولني/ فزئير ضرسي بت أسمعه

    هي طرقة، إما سيصرعني/ أو سوف بعد الجهد أصرعه.

    يبقى لنا القول إن الحياة بما تحويه من ألم، تستدعي أصحاب الملكات والقدرات الخاصة لصوغ هذا الألم بالسخرية منه، تخفيفاً لحدته، وتفوقاً على الذات المكلومة.