الخامس من نيسان عام 2006 بكت السماء مطراً وهي تودع رجلاً عرف كيف يكون في السماء، واليوم الخامس من نيسان 2009 جددت السماء بكاءها، في ذات اليوم الذي ووري الشاعر الكبير "محمد الماغوط" ثرى "الميلحة" غرب "سلمية" حيث مدفن العائلة.

eSyria التقى الأستاذ "إسماعيل الماغوط" شقيق الراحل "محمد" يوم الأحد 5/4/2009، ليحدثنا عن ماضِ، كان جميلاً، وطفولة ما زالت في البال.

بدأت وحيداً، وانتهيت وحيداً، كتبت كإنسان جريح، وليس كصاحب تيار، أو مدرسة

فمن هو "محمد الماغوط" يقول الشقيق: «يكبرني بثماني سنوات، لكنه كان صديقي، مزاجيته ككل الأعلام البارزة، ربما هناك سر في هذه المزاجية، متوفز وعصبي المزاج، أعرف فيه الشخص الناقم على كل من يكذب، ولا يجامل المنافقين، وعلى العموم كانت هذه المزاجية متأثرة بالمحيط الذي يدور فيه، وعلى كافة الصعد، الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية على وجه الخصوص، وكان شعاره الدائم أن أمريكا وإسرائيل لا يمكن أن يكونا إلاّ أعداء لنا».

الشاعر الراحل "محمد الماغوط"

وعن ثلاث سنوات مرّت على رحيل "الماغوط" ماذا تعني للشقيق، فيقول: «لقد فقدت إنساناً عزيزاً على قلبي، رغم ما قيل عن علاقتنا ببعض، وخلافاتنا الإيديولوجية. كان دائم السؤال عن الأهل، والأصدقاء، والأقارب، وعن "سلمية" برمتها، رغم ابتعاده عنها لسنوات، لكنها حاضرة معه أبداً، عبر الهاتف، وعبر من يزوره في "دمشق" كان منشدّاً إليها، متعلق بحبه لها».

وعن غربة "محمد" الداخلية، يقول: «كان "محمد" ثائراً في داخله، وهو الذي قال في إحدى مقالاته: (أنا ضد أن نعالج الأشياء من خلال مظهرها ويجب أن نغوص إلى الأعماق). يشعر أنه قادر على صنع المستحيل، لكنه متشائم في كتاباته، ابتعد عن مدينته، غادر بيته الذي ولد فيه، لكنه كان يأتي خلسة إليه، يبات فيه ليلة واحدة، لا أحد يسمع بمجيئه إلاّ القلة القليلة، هو دائم الارتحال في عوالمه الإبداعية، فكرّس هذه الحالة الاغترابية في كل كتاباته، فكان متهكماً، ساخراً، ساخطاً، لا يعجبه العجب، يبحث عن يوم جميل يرغمه على ترك القلم، فما قال لي: (متى شعرت أنني أعيش بلا هموم فإنني سأتخلى عن الكتابة، لا لشيء، ولكن لأنني لن أحتاج عندها إلى الكتابة)».

"إسماعيل الماغوط".. شقيق الشاعر

من هي والدة "محمد" وما علاقته بها، فيجيب الشقيق مع ابتسامة خفيفة ويقول: «هناك حوار طريف دار بين أمي "ناهدة" وبينه، وكان ذلك في زيارة قامت بها إلى "دمشق" وكان "محمد" قد غاب لسنوات عن "سلمية". قالت له: (اوعدني يا "محمد" إذا أنا متت إنك تحضر جنازتي) فقال لها: (بوعدك)، وتوفيت والدتي في عام 1987 وحضر "محمد" جنازة والدته، كان يحبها كثيراً، لهذا ابتعد عنها كي لا يرى الدموع في عينيها».

وعن الأشياء التي تغضب "محمد" يقول الأستاذ "إسماعيل الماغوط": «زرته مرة في بيته، كان يلف يده بالضماد، سألته ما الذي جرى؟. قال لي: (دخل الأمريكان إلى العراق) فقلت له: (وما دخل يدك بدخول الأمريكان إلى العراق؟) فأجابني: (كنت ممسكاً بكأس، سمعت الخبر، حطمت الكأس على الطاولة التي أمامي، فجرحت يدي، لا يهم أن تجرح يدي، لأن العرب كلهم جرحوا بما حدث). التخاذل العربي كان يؤلمه، ويغضبه، لهذا لجأ إلى السخرية في كتاباته انتقاماً من نفسه أولاً ومما يحدث ثانياً».

مدخل بيت الماغوط

وماذا عن الخلاف الإيديولوجي بينك وبينه، وما مدى تأثيره على العلاقة بينكما؟ يجيب الشقيق: «لا شك أن انتماء كل منا كان لحزب ما، وهذا ما أثّر في البداية، لكننا اقتنعنا أن هذا الخلاف لا يمكن أن يدوم، فكما قال لي: (لتسقط كل الإيديولوجيات قبل أن تسقط رابطة الدم)، وهذا ما جعلنا نتجاوز الخلاف فيما بيننا، فنحن إخوة قبل كل شيء، وهذا كافٍ، وبعدها أصبحت من متابعيه، أقرأ ما يكتب، وأتابع كل أعماله، إنه فخر لي، وأنا فخور به».

ماذا قدّم "محمد الماغوط" لمدينته "سلمية" سألنا الأستاذ "إسماعيل" فأجاب: «قدّم لها سمعته، وأدبه، وأنه ابن "سلمية" وكان يفتخر بانتمائه لها، وإن خرج من بيوتها الطينية، الملأى بالفكر، ليحلق بعيداً عنها، لكن عينه كانت ترقب العش الذي ولد فيه، ومع هذا فقد أحب أن يغرد خارج السرب، راكباً أرجوحته، يخشى أن يحدودب ظهره كعصفور كان هو ذاته، ولكن إن سألتني ماذا قدّم لمدينته كشيء حسيّ ملموس، فأقول لك: لم يقدم شيئاً».

وعكسنا السؤال، فأجاب: «يوم غادر "محمد" مدينته وهو شاب، كان وحيداً، ويوم غادر الحياة، كانت كل مدينته في وداعه، لقد قدمت "سلمية" لـ "محمد" حبها، ألمها، دمعها، حزنها على رحيله، وبرأيي هذا أكثر ما يمكن أن تقدمه مدينة لشاعر خرج منها إلى العالمية».

وأهل الأدب والفن ماذا فعلوا بعد رحيل "الماغوط"، فيجيب: «كل الشعراء كتبوا في رحيله، وأهل الفن أقاموا مهرجاناً مسرحياً يحمل اسمه. ماذا يمكن أن يفعلوا أكثر؟.. أعتقد أنهم لم يبخلوا بشيء يستطيعون فعله، ولم يفعلوه.

وسألناه هل من كتب ما زالت بخط اليد ولم تطبع بعد، فقال: «هناك الكثير مما كتبه ولم ينشر، وهناك كتاب كان سيجد طريقه إلى النشر وقد عنونه "عواء الشعوب بالمقلوب" ربما سينشر في يوم ما».

في النهاية.. من هو "الماغوط"...

اسمه "محمد أحمد الماغوط" من مواليد "سلمية" في 19/2/1934

رزق بابنتيه "شام" و"سلاف" له أعمال في المسرح والتلفزيون والسينما، ودواوين شعرية،

أبرز الجوائز التي نالها:

ــ تم تكريمه في العام 2002 في حفل أقيم في "مكتبة الأسد" بـ "دمشق" بمناسبة صدور ديوانه "حطّاب الأشجار العالية" ضمن منشورات كتاب في جريدة.

ــ كما كرم الراحل في مسقط رأسه مدينة "سلمية" التي أهدته مهرجانها الشعري السنوي عام 2004.

ــ جائزة "العويس" 2004-2005 في مجال الشعر.

ــ كما نالت معظم أعماله القصصية والمسرحية والشعرية جوائز في مهرجانات عربية ودولية.

ــ أقلام كثيرة في الصحافة العربية، والأجنبية تناولت مسرح "الماغوط".

ــ ترجمت دواوينه، ومختارات له، ونشرت في العديد من العواصم العالمية.

ــ دراسات نقدية وأطروحات جامعية حول شعره ومسرحه.

أبرز أعماله:

ــ في السينما: "الحدود" "التقرير" من بطولة وإخراج الفنان الكبير "دريد لحام"

ــ في المسرح: "ضيعة تشرين" "غربة" "شقائق النعمان" "كاسك يا وطن" "خارج السرب"

ــ من كتبه: "العصفور الأحدب" "الأرجوحة" "سأخون وطني" "شرق عدن غرب الله" "البدوي الأحمر" وهناك كتاب لم يطبع تحت عنوان "عواء الشعوب بالمقلوب"

ــ في التلفزيون: "وين الغلط" "وادي المسك" "حكايا الليل"

ــ كتب في الصحف والمجلات الدورية المحلية والعربية.

يقول "الماغوط": «بدأت وحيداً، وانتهيت وحيداً، كتبت كإنسان جريح، وليس كصاحب تيار، أو مدرسة».‏

ولأنه ابن مدينة "سلمية" التي أنتجت "رسائل إخوان الصفا" وهي "أم القاهرة" كتبها في قصيدة، فقال:

سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان

على أول أسير فك قيوده بأسنانه

ومات حنينا إليها.

سلمية...الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا

وهي تلهو بأقراطها الفاطمية

وشعرها الذهبي

وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين

دميتها في البحر

وأصابعها في الصحراء.

يحدها من الشمال الرعب

ومن الجنوب الحزن

ومن الشرق الغبار

ومن الغرب..الأطلال والغربان

فصولها متقابلة أبداً

كعيون حزينة في قطار

نوافذها مفتوحة أبداً

كأفواه تنادي.. أفواه تلبي النداء

في كل حفنة من ترابها

جناح فراشة أو قيد أسير

حرف للمتنبي أو سوط للحجاج

أسنان خليفة، أو دمعة يتيم

زهورها لا تتفتح في الرمال

لأن الأشرعة مطوية في براعمها

لسنابلها أطواق من النمل

ولكنها لا تعرف الجوع أبداً

لأن أطفالها بعدد غيومها

لكل مصباح فراشة

ولكل خروف جرس

ولكل عجوز موقد وعباءة

ولكنها حزينة أبداً

لأن طيورها بلا مأوى

كلما هب النسيم في الليل

ارتجفت ستائرها كالعيون المطروفة

كلما مر قطار في الليل

اهتزت بيوتها الحزينة المطفأه

كسلسلة من الحقائب المعلقة في الريح

والنجوم أصابع مفتوحة لالتقاطها

مفتوحة_منذ الأبد_لالتقاطها