الشاعر "محمد منذر لطفي" من مواليد مدينة "حماة" عام /1935/ يكتب الشعر منذ نصف قرن من الزمان، وبعد إحالته على التقاعد فقد خصص طيرانه في سماء الخيال فقط...

وهذا شيء لا يقل روعة وجمالاً عن الطيران في سماء الواقع إن لم يكن أجمل منه وفي هذا الحوار الذي أجراه معه موقع eHama بتاريخ 1/11/2008 يتحدث عن تجربته الشعرية وملامحها وأهم خصائصها.

*حدثنا عن نفسك، ومتى بدأت كتابة الشعر؟

**بدأت أقرض الشعر منذ نصف قرن من الزمان وكنت أعمل ضابطاً طياراً لمدة عشرين عاماً تقريباً في سلاح الجو العربي السوري، ثم أحلت بعدها على المعاش الصحي برتبة عقيد طيار ركن عام /1972/ بسبب نقص الرؤية ففي حياتي كنت أحلق في السماء حين العمل وأحلق في سماء الشعر حين أغزل قصائدي فتركت التحليق في السماء لأبقى في سماء الشعر طائراً مغرداً.

  • بأي المدرستين الشعريتين تؤمن بالكلاسيكية أم بالحديثة ؟ وعلى أي الأوتار تعزف؟
  • **أؤمن بأصالة المدرستين الشعريتين (الكلاسيكية) و(الحديثة) وبالتالي فأنا أعزف قصائدي على أوتارهما معاً وأترك نفسي على سجيتيهما حينما تبدأ (القصيدة بكتابتي) وحينما يبدأ الهاجس الشعري يترجم إلى أدب منغم وبيان آسر فإذا أخذ الصبيب الأول الشكل الكلاسيكي أي البحر شكلاً للقصيدة فإنني أتابعه حتى نهايتها أما إذا أخذ الشكل الحديث شكل التفعيلة فإنني أتابع العزف عليه حتى نهاية القصيدة أيضاً.

  • إذاً أنت تعتقد بوجود شعر قديم وشعر آخر حديث؟
  • **لا أعتقد (فنياً وحتى زمنياً) بوجود شعر قديم وآخر حديث فحديث اليوم سيصبح قديم الغد وإنما أعتقد بوجود شعر جيد سيكتب له البقاء يقابله على الرصيف الآخر شعر هابط محكوم عليه بالفناء بغض النظر عن المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها هذا الشعر أو ذاك وفي هذا المجال أستطيع وبثقة تامة أن أذكر مقولتي التي أنادي بها على الدوام والتي كانت عنواناً لإحدى مقالاتي النثرية ذات يوم وهي (أعطني شعراً.. أبايعك شاعراً) بغض النظر عن المدرسة الشعرية التي تنتمي إليها لأن لكل مدرسة معاييرها ومفاهيمها وأصباغها وألوانها وقوانينها وأحكامها إن جاز التعبير.

    * كيف ترى الشاعر؟

    **أرى أن الشاعر كصدفة المحار لا يفرز عصارته الثمينة (اللؤلؤة.. أو القصيدة) إلا إذا حركه إلى درجة كافية عامل داخلي.. فكرة موحية ذات شحنات عاطفية عالية ومؤثرة فاعلة ومنفعلة على سبيل المثال وعندها فقط أستطيع أن أحكم على فنية ذلك الشاعر وأحدد مكان مقعده في الصف الأدبي وأميز بين الشاعر والناظم وبين الخرز والدرر فالدخول إلى مملكة الشعر يحتاج إلى جواز مرور يتمتع صاحبه بفنية شعرية جيدة.

  • وما رأيك بمصطلح ما يسمونه قصيدة النثر؟ وما صحة هذا التعبير إن صح القول؟
  • **لا أرى صحة لبعض المصطلحات الأدبية المعاصرة (وهذه وجهة نظري) وبخاصة مصطلح قصيدة النثر الذي يؤدي إلى الخلط بين الأجناس الأدبية فلكل جنس أدبي خصائصه ومواصفاته التي تميزه عن الجنس الأدبي الآخر وتعطيه (هويته الفنية.. وخصوصيته الأدبية)، وفي هذا المجال فأنا أرى أنه في تاريخنا الأدبي المغرق في القدم ومنذ الشاعر "المهلهل" وحتى الشاعر "نزار قباني" على سبيل المثال لم تحدث أية وحدة اندماجية بين الشعر وبين النثر كأن يقال (قصيدة نثر) ولا أدري سبباً واضحاً لإطلاق مثل هذا المصطلح والترويج له إلا أن يكون هنالك وراء الأكمة ما وراءها ذلك أن قطعة نثر فنية جميلة قد تكون أفضل فنياً من ديوان شعري بكامله ولكن يبقى الشعر شعراً والنثر نثراً ولن يلتقيا إلا في الأسلوب أحياناً.

    وأخيراً فأنا من الشعراء الذين يأخذون بمقولة الشاعر الفرنسي المعاصر "بول إيلوار" التي تقول: "يجب على الشاعر أن يقف على الماضي والحاضر ليستشرف الآتي والمستقبل ويمنح الرؤى".

  • ما أهم الخصائص التي تميز تجربتك الشعرية من حيث الأسلوب والصياغة والموضوعات؟
  • **من حيث الأسلوب: أنا معجب ومنذ بداية نظمي للشعر بالأسلوب (الرومانسي) وبأسلوب (السهل الممتنع.. أو سلاسل الذهب) الذي كان يمثله قديماً الشعراء "مجنون ليلى – عمر بن أبي ربيعة – الشريف الرضي – البحتري – ابن زيدون"، على سبيل المثال وحديثاَ الشعراء "الأخطل الصغير – بدوي الجبل – نزار قباني – حامد حسن" على سبيل المثال أيضاً وإن من يقرأ شعري يشعر مباشرة وللوهلة الأولى أن لي وجهاً شعرياً مميزاَ لا يضيع في زحمة غيره من الأصوات الشعرية وأن المفردات الحلوة الشفافة والصور الجميلة الزاهية والموسيقا الرشيقة الأنيقة هي السمات الرئيسة لشعري وأسلوبي.

    ومن حيث الموضوعات: للمرأة والطبيعة.. والوطن والإنسان حضور في شعري فأنا من الذين يؤمنون أن الشاعر كقطعة النقد الذهبية ينقش على وجهها الأول قضاياه الشخصية أيا كانت هويتها بينما ينقش على وجهها الثاني قضايا الوطن والمجتمع والإنسان من هذا المثال أستطيع القول إن أهم ما يميز تجربتي الشعرية من حيث الموضوعات الأبعاد الرئيسة الثلاثة وهي:

    البعد الذاتي: البوحي والعاطفي والرومانسي الذي يعني بالطبيعة ومفرداتها الجمالية، وقد ظهر ذلك واضحاً في مجموعتي الشعرية الأولى "أغنية إلى حبيبي" والثانية "من أغاني المطر" والخامسة "أمطار الربيع الدافئة" والعاشرة "جميلة هي الحياة" والثالثة عشر "الدخول إلى مملكة الحب".

    البعد الاجتماعي والوطني والقومي: وقد ظهر ذلك واضحاً في مجموعتي الشعرية الثالثة "بابل والضوء الجديد" والرابعة "حوار مع المهدي المنتظر"- والسادسة "الموت في شباب النهار" والتاسعة "مرافعة بين يدي عمرو بن كلثوم"- والحادية عشرة "تداعيات بين يدي أبي العلاء المعري" والثانية عشرة "قصائد للوطن والحب والإنسان".

    البعد الإنساني الشمولي والكوني: وقد ظهر ذلك واضحاً في مجموعتي الشعرية السادسة "الموت في شباب النهار" والثانية عشرة "قصائد للوطن.. والحب.. والإنسان".

    أما من حيث الصياغة: أنا أؤمن بالتجديد والتحديث.. وأمثل التيار الأصيل الجديد كما يحلو لبعض الشعراء والنقاد المعاصرين في سورية وصفي به أمثال "حامد حسن– عدنان بن ذريل – محي الدين الدرويش – مدحت عكاش – وغيرهم" وأدعو إلى حداثة شعرية معقولة لا تتنكر لماضيها التراثي في الشعر ولا تغرق في التحرر الحديث منه لدرجة الخروج عن الأصول فالمتتبع للساحة الشعرية العربية المعاصرة يرى أن وصول بعض الشعراء المعاصرين باسم الحداثة والمعاصرة إلى الخروج عن الأصول شكلاَ ومضموناً وتحطيمها أدى إلى خلط الأوراق بين الأجناس الأدبية كافة على صعيد المضمون.

    * هل لك أن تفسر لنا ذلك؟

    **أنا أقول لك ببساطة بالنسبة للشكل الشعري:

    أوصلنا الجناح المتطرف في مدرسة الشعر الحديث الذي يدعو إلى تحطيم أي ضابط إيقاعي نغمي في الشكل الشعري بحر.. أو تفعيلة.. مع تنوع القوافي بحجة الاستعاضة عن موسيقاهما الخارجية بالموسيقا الداخلية للقصيدة أو المقطع.. أقول أوصلنا هذا الجناح إلى ما يسمى بـ (قصيدة النثر) مع أن هذا التحطيم يمثل – إن أخذ به – ضربة قاضية لمفهوم الشعر العربي الأصيل سواء ما اعتمد منه وحدة البحر أو وحدة التفعيلة شكلاً للقصيدة لأن أحد أهم الميزات الرئيسة التي تميز الشعر عن النثر هو ذلك الحجاب الحاجز الشفاف الذي يفصل بينهما وأعني به الضابط الإيقاعي النغمي من تفعيلة وقافية منوعة وأننا لو رفعناه لاختلط الحابل بالنابل وضاعت (الحقيقة الشعرية) ضياعاً تاماً وأصبح كل كلام أدبي شعراً وهنا يكمن الخطر الحقيقي لهذا الاتجاه المتطرف لأن لكل كلمة في لغتنا الجميلة إيقاعها الموسيقي الخاص بها وبالتالي فإن كل كلمة تصبح قصيدة والحالة هذه ومن هنا يأتي الخطر.

    وبالنسبة للمضمون والفنية:

    أخذ الغلاة والمتطرفون في مدرسة الشعر الحديث أيضاً يلهثون ركضاً وراء (الرمز) وراحوا يستخدمونه أكثر بكثير من الحاجة المطلوبة (غايةً.. لا وسيلة) وبذلك فقد أهميته وأصبح- وهو السلاح ذو الحدين- عالة على الشعر الحديث لأنه قاد إلى نوع من المعميات والطلاسم ففقد الشعر بذلك دوره الرئيس ومهمته الأساسية في تقديم القيم للمجتمع ومن المسلم به أن الشاعر ينظم لأبناء أمته أساساً ولا ينظم لمخلوقات من كوكب آخر فإذا تعذر فهم نتاجه على مثقفيها نتيجة إغراقه في الرمز. الشاعر "أدونيس" مثالاً، الذي انتقل مؤخراً من مملكة الشعر والسحر والضياء إلى مملكة الطلاسم والمعميات والكيمياء فأية فائدة تجنيها الأمة منه ومن شعره أية فائدة وفي نهاية هذه الشهادة العجلى أحب أن أكرر القول إنني مع المدرستين الشعريتين (الكلاسيكية – والحديثة) ضمن الشروط التي ذكرت آنفا فكلتاهما أصيلة وأعطني شعراً أبايعك شاعراً بغض النظر عن المدرسة الشعرية التي تنتمي إليها فما أصعب أن يكون الإنسان شاعراً متميزاً وما أروع أن يكون.